عندما قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) لأبو بكر: دَعْهم حتى يعلم اليهود أن ديننا فسيح.. هل جلستَ العصر مثلى بين جفنات العنب.. والعناقيد تدلَّت كثيرات الذهب هل فرشتَ العُشبَ ليلًا وتلحَّفت الفَضَا.. زاهدًا فى ما سيأتى ناسيًا ما قد مضى أعطنى الناىَ وغنِّى فالغِنا سرّ الخلود.. وأنين الناى يبقى بعد أن يفنى الوجود بصوت ملائكى لفيروز وبلحن أسطورى لنجيب حنكش من مقام «النهاوند» وبتوزيع موسيقى للأخوين رحبانى نستمتع بهذه الأبيات التى نظمها شاعر المهجر جبران خليل جبر (1893 - 1931م) ضمن قصيدة «المواكب». حدِّث ولا حرج عن الصور الجمالية وكذا المعانى والرؤى الفلسفية فى هذه القصيدة البديعة، ولكن يجب أن يستوقفك البيت المتكرر «المذهب» الذى صاغه جبران بأكثر من شكل فى قصيدته فتارة يقول «أنين الناى يبقى بعد أن تفنى الحياة» وتارة أخرى «أنين الناى يبقى بعد أن تُطفى النجوم»، أو كما استهللنا المقال «أنين الناى يبقى بعد أن يفنى الوجود». فصوّر جبران الكون كأنه يغنى من قديم الأزل بصوت يشبه صوت الناى الحزين، هذا الصوت الذى تسمعه القلوب فى ظلام الليل الهادئ عندما ننظر إلى السماء الساكنة ونجومها البعيدة، صوتٌ يتردد منذ أن أنشأ الله الأرض وما عليها وإلى أن يرثها، بل ويتخيل جبران أن هذه الموسيقى ستبقى وتتردد فى أنحاء الكون حتى بعد فنائه. ولكن هذا المعنى يجده البعض متجاوزًا وغير مقبول وقد يذهب البعض إلى تحريمه. ومسألة الحلال والحرام فى الغناء والموسيقى مسألة قديمة وفيها الكثير والكثير من اجتهادات العلماء والمفسرين، وأعتقد أن الغالبية العظمى من القراء يعتقدون فى حرمة الغناء والمعازف رغم أن أغلبهم يسمع ويستمتع بالموسيقى والغناء وترتبط ذكرياته بأغانٍ بعينها ويقضى أجمل أوقاته عندما ينسجم مع صوت مطربه المفضل. فلماذا هذا التناقض الشديد؟ ولماذا تبقى المسألة تحمل هذا الالتباس إلى الآن؟ كاتب المقال بالطبع ليس عالمًا بالدين حتى يُفتى دون علم وعنوان المقال هو ما استراحت إليه نفسى بعد قراءة متأنية لبعض المقالات والكتب فى هذا الشأن أهمهما كتاب «الإسلام والفنون الجميلة» للدكتور محمد عمارة مواليد 1931 وهو من المفكرين الإسلاميين المعاصرين البارزين وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ورسالة ابن حزم الأندلسى (994 - 1064م) «رسالة فى الغناء المُلهِى أمباح هو أم محظور؟»، وابن حزم من أكبر علماء عصره ومن ضمن أهم العلماء المجددين عبر التاريخ وكذا كتاب «إحياء علوم الدين» لأبو حامد الغزالى (1058 - 1111م) أحد كبار العلماء من مؤسسى المدرسة الأشعرية السُّنية التى ينتسب إليها الأزهر الشريف. من أهم النقاط التى يرتكز عليها محرِّمو الغناء الآية الكريم: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِىثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِين» (لقمان: 6). وقد اتفق أغلب المفسرين على أن لهو الحديث المذكور فى الآية الكريمة هو الغناء. ونتفق جميعًا على أن مَن يشترى أو يوظِّف الغناء ليضلّ عن سبيل الله ويتخذها «معاذ الله» هزوًا يستحق العذاب المهين ولكن هل الغناء «كله» فى عصرنا الحالى يوظَّف ليُضلّ عن سبيل الله؟ يقول ابن حزم فى تفسير هذه الآية: ولو أن امرأً اشترى مصحفًا ليضلّ به عن سبيل الله ويتخذها هزوًا لكان كافرًا.. «مصحفًا وليس غناءً». ويقول القرطبى (642 - 728م) ضمن ما قيل فى أسباب نزول نفس الآية: قيل كان رجل يُدعى «النضر بن الحارث» يشترى المغنيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته «مغنيته» فيقول لها: أطعميه واسقيه وغنّيه، ويقول هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام، تقاتل بين يديه. ومما سبق نفهم أن كل ما يُستخدَم ليُضَلّ به عن سبيل الله هو حرام، فالتحريم فى الآية يعود على الغرض من الغناء وليس الغناء فى حد ذاته. إذن اللهو «الغناء» حلاله حلال وحرامه حرام. ويؤكد القرطبى أن التحريم لا ينصرف إلى مطلق الغناء ولكنه يقتصر على غناء الهوى والمجون، ويعرض ذلك فى تفسيره للآية الكريمة «وإذا رأوا تجارة أو لهوًا انفضُّوا إليها وتركوك قائمًا» (الجمعة: 11)، وتقرن الآية اللهو هنا بالتجارة فهل التجارة حرام؟ أم أن التجارة التى تتعارض مع أوقات فرائض الإسلام هى المقصودة بالذم فى هذه الآية؟ ويعرض د.عمارة فى كتابه أحاديث صحيحة فى إباحة الغناء منها: عن عائشة (رضى الله عنها) قالت: دخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعندى جاريتان تغنيان بغناء بُعاث «موقعة انتصر فيها الأوس على الخزرج فى الجاهلية» فاضطجع على الفراش وحوَّل وجهه فدخل أبو بكر فانتهرنى وقال: مزمار الشيطان عند رسول الله؟ فأقبل عليه رسول الله فقال: دعهما. فلما غفل «أبو بكر» غمزتهما فخرجتا. «صحيح البخارى ومسلم». وروى البخارى أيضا عن عائشة أنها زَفَّت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال رسول الله: يا عائشة ما كان معكم من لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو. وفى رواية النسائى لنفس الحديث قال رسول الله: أهديتم الفتاة؟ ألا بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم.. فحيَّانا وحيَّاكم. رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هنا يذكر لعائشة بيتًا من أبيات اللهو «الغناء» لتحية العروس ويحثها على أن تأخذ معها من يغنّى كهدية للعروس. ومن المأثورات أيضا عندما زجر أبو بكر الفتيات اللاتى استقبلن رسول الله بالغناء يوم الهجرة فقال له الرسول: «دَعْهم يا أبا بكر حتى يعلم اليهود أن ديننا فسيح». «فهل هناك أروع من أن يعتبر رسول الله غناء الفتيات دعاية للإسلام ودليلاً على يسره وسبيلاً فى الدعوة إليه؟». ويستطرد ابن حزم فى رسالته عن الغناء فيذكر تسعة عشر حديثًا «مأثورًا» فى منع الغناء وتحريمه، وعقَّب عليها كلها بقوله: «ولا يصح فى هذا الباب شىء أبدًا، وكل ما فيه موضوع (ضعيف) والله لو أُسند جميعها أو واحد منها فأكثر من طريق الثقات إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما ترددنا فى الأخذ به». أشهر هذه الأحاديث هو حديث البخارى «ليكونن من أمتى قوم يستحلَّون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف»، فيجزم ابن حزم بأنه حديث موضوع ويقول: لم يورده البخارى مسندًا وإنما قال فيه: قال هشام بن عمار ثم هو إلى أبى عامر أو إلى أبى مالك، ولا يدرى أبو عامر هذا. هذا هو كلام ابن حزم وهو الخبير الحجة فى نقد النصوص كما وصفه د.عمارة. ويجب تأكيد أن العديد من العلماء اختلفوا مع ابن حزم فى رأيه هذا وأبرزهم ابن تيمية. يجب أن نذكر أيضًا آراء الأئمة الأربعة فى الغناء حيث اعتبروه فى أغلب ما ورد عنهم مكروها، فالإمام مالك (712 - 795م) يحرِّمه وهو عند أبو حنيفة (699 - 767م) مكروه، ورُوىَ عن الإمام أحمد بن حنبل (788 - 885م) ثلاث روايات «الحرمة- الكراهة- الإباحة»، كما أن الشافعى (767 - 820م) رآه مكروهًا يشبه الباطل، ومَن اعتاد عليه سفيه تُردّ شهادته. ويُرجع د.عمارة هذه الآراء إلى النوع السائد من الغناء فى هذه الفترة الذى اقتصر على بِدَع من بعض الزنادقة يسمّونه «التغيير» يصدّون به الناس عن القرآن. وعلى هذا فالغناء الموجود فى عصر الأئمة كان مرتبطًا دائمًا بمجالس الخمر أو بجلسات الزنادقة وبعض مَن تطرفوا فجعلوا جلسات الذكر الغنائية أَوْلى من العبادات المنصوص عليها وهذا بالطبع يستوجب الكراهية والتحريم. المفارقة هنا أنه طبقًا للمادة 219 (مادة أهل السنة والجماعة) من الدستور المصرى المعطَّل، وفى ظل شبه إجماع الأئمة على كراهة الغناء ورفض شهادة مَن اعتاد على سماع الأغانى يستطيع أصغر محامٍ أن يبطل أكثر من 90٪ من القضايا الجنائية التى شهد فيها مواطنون مصريون بحجة حفظهم لأغانى أم كلثوم. ومن حُسن الحظ أن هذا الإجماع لم يمنع الشيوخ المعاصرين من إباحة سماع الغناء والموسيقى ونذكر منهم: مفتى الديار وشيخ الأزهر الإمام الأكبر جاد الحق علِى جاد الحق (1917 - 1996م) فى فتواه رقم «3280» بتاريخ 1980/8/12 التى يبيح فيها سماع الموسيقى وحضور مجالسها «بل وتعلُّمها» ما لم تكن محرِّكة للغرائز باعثة على المجون مقترنة بالخمر والفسوق. وذهب الشيخ القرضاوى مواليد 1926م رئيس الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين، إلى نفس الرأى فى إباحة سماع الغناء والموسيقى؛ إذ يقول فى فتواه أيضًا «وأما الأحاديث التى استدلّ بها المحرِّمون فكلها مثخنة بالجراح، لم يسلم منها حديث دون طعن فى ثبوته أو دلالته أو فيهما معًا». وكذا أفتى بالإباحة الشيخ أحمد كريمة أستاذ الشريعة الإسلامية فى جامعة الأزهر، وقال نصًّا: لم يَرِد فى الشرع ما يحرّم ذلك بدليل قطعىّ الورود ولا قطعىّ الدلالة. وأختم مقالى بما قاله الإمام أبو حامد الغزالى «ومَن لم يحرّكه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج، ومَن لم يحرّكه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية زائد فى غِلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور بل على جميع البهائم فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة». أطلتُ عليك حتى أتعبتُك عزيزى القارئ وأعتذر ولكن الأمر فى ظنى يستحق، وأكافئك على صبرك بأن أدعوك لتسمع معى فيروز وهى تشدو وتقول: أعطنى الناى وغنِّى وانسَ داءً ودواء إنما الناس سطور لكن كُتبت بماء