باستثناءات قليلة، كل من يختلف ويعارض لا هدف له سوى أن يعيش في وطن أفضل. وباستثناءات أقل، كل من يطالب بفتح المجال العام وإفساح المجال للحكم الرشيد واحترام حقوق الإنسان لا يريد ذلك إلا لأن تجارب السابقين واللاحقين تؤكد أن الدول المتقدمة حصرًا هي التي نجحت في توطين هذه القيم على أراضيها، وأن الدول التي تتمزق أوصالها الآن هي التي ظن حكامها أنهم ظل للإله. باستثناءات قليلة، تكره النخبة الحاكمة المعارضة، تدخل مع المختلفين معها في خصومة شخصية تستخدم فيها كل أدوات التنكيل والإقصاء، تعتبرهم خطرًا يهدد أمنها واستقرارها، لا تأخذ منهم فكرة وإن صحت، ولا تستجيب لنصيحتهم وإن صدقت، ولا تستمع لرأيهم وإن بدا منطقيا، لا تنظر إليهم إلا كمنافس محتمل على السلطة، ولذلك لا تمنحهم أي مساحة للحركة، لأن هذا قد يمنحهم نقاطًا يهزمونها بها في مراحل لاحقة. نختلف للوطن ولا نختلف عليه، لكن هل يفعل من في السلطة ذلك؟ *** "إن مجابهة الإرهاب تتطلب إيجاد الحلول السياسية للصراعات الدائرة والتي يستغلها الإرهاب لحيازة الأرض والسيطرة على الشعوب". قالها الرئيس عبد الفتاح السيسي في كلمته أمام القمة السابعة عشرة لرؤساء دول وحكومات حركة عدم الانحياز، ما يعني إيمانه بأن الإرهاب هو البديل الأكيد لغياب الحلول السياسية. هذا ما بُح به صوت القوى السياسية على مدار ثلاث سنوات، وهذا ما تفعل الدولة عكسه تماما منذ ثلاث سنوات. بينما كان وزير الخارجية سامح شكري يقف على منصة القمة ليلقي الخطاب نيابة عن السيسي، كانت قوات الأمن تقتحم منازل 6 من سائقي هيئة النقل العام وتقبض عليهم على خلفية احتجاجات عمالية، ووزير التعليم العالي يعلن إلغاء انتخابات اتحاد طلاب مصر والعودة للائحة وُضعت في عهد المخلوع لوأد الحركة الطلابية، ومذيعة بالتليفزيون تُحال لمحاكمة تأديبية لانتقادها الرئيس في برنامجها، وهيئة مفوضي المحكمة الإدارية تسمح للداخلية بمراقبة مواقع التواصل الاجتماعي، ومحكمة الطفل تُصدر حُكما بحبس 5 قُصَّر خمس سنوات لتظاهرهم ضد اتفاقية ترسيم الحدود من السعودية، وقوات الأمن تعتقل أدمن صفحة على الفيسبوك على خلفية فيديو ساخر اعتبروه مهينا للرئيس. قبل ذلك كان النظام قد فرض على الإعلام تأميما كاملا بإبعاد أي إعلامي له رأي مختلف عن المشهد ومنع أي ضيف معارض من الظهور، وأخرج مجلس النواب بصورة كان الحزب الوطني في أوج تجبره سيخجل من فجاجتها، وحتى النواب القلائل الذين تسللوا إلى المجلس من خارج المنظومة تسن لهم السكاكين يوميا في الإعلام المؤمم، فيما فرضت على الأحزاب إقامة إجبارية في مقراتها لا يمكنها النزول إلى الشارع أو حتى استئجار قاعة في أحد الفنادق لإقامة ندوة. أغلق النظام كل نوافذ التعبير عن الرأي واكتفى بمطاردة المتحدثين عن المشكلات لا المتسببين فيها، ناصب المنظمات الحقوقية العداء وأجبر كثيرا منها على مغادرة مصر ومن تبقى تحفظ على أموالها واستهلكها في السعي بين النيابات والمحاكم، حتى إن مصدر ترحيب مؤيديه بمرشح عنصري تجاه المسلمين والأقليات مثل ترامب لرئاسة الولاياتالمتحدة لمجرد الظن أن منافسته هيلاري كلينتون قد تضغط في ملف حقوق الإنسان! في خنق المجال العام ومصادرة كل هامش للتفكير والتعبير مشروع فوضى أكبر من أن يتحمله وطن مأزوم. *** تعاني مصر أزمة اقتصادية غير مسبوقة تسببت فيها سياسات خاطئة، هذا سيئ، لكن الأسوأ أنهم يحاولون تجاوز هذه الأزمة بنفس السياسات الخاطئة. ما زال نظام الرئيس السيسي مصمما على تجريب ما جربه هو من قبل وفشل، اتخذ في السنوات الماضية إجراءات استثنائية كثيرة معتقدا أنه السبيل لإصلاح الأوضاع فزادت سوءا، ما زال القريبون من دوائر الحكم يقولون في جلساتهم العامة والخاصة إن الوقت ليس مناسبا لفتح المجال العام، وكأن إغلاقه قادنا إلى وضع أفضل. أزمتنا تُحل بالسياسة قبل الاقتصاد، الوضع الاقتصادي تأزّم أصلا لأن هناك استقطابا حادا أدى لعنف أصبح رادعا للسياحة والاستثمار، لأن هناك انفرادا بالقرار جعل السلطة تهدر مليارات كثيرة من الاحتياطي النقدي في مشروعات غير مدروسة، لأن تشكيلة البرلمان تجعل رقابته على قرارات الحكومة الاقتصادية شكلية، لأن هناك اكتفاء بأهل الثقة حوّل كل شاغلي الوظائف العليا مجرد موظفين ينفذون الأوامر دون أي قدرة على المبادرة والإبداع، لأن هناك تضييقا على العمل السياسي والحزبي الذي يوفر لمن يحكم كثيرا من الأفكار، لأن هناك دعما للكراهية وتحريضا على المختلف بصورة تجعل الشماتة مقدمة على التعاطف والتفهم. مواجهة الأزمات تلزمها جبهة داخلية متماسكة وموحدة، ومن يعتقد أنه سيتغلب على كارثة بنفس الأدوات التي أدت إليها سيفيق على كارثة أكبر. في سنوات سابقة كانوا يقللون من شأن الحريات وحقوق الإنسان ما دام الطعام متوفرا، الآن أصبحوا يقللون من شأن الحريات وحقوق الإنسان والطعام ما دام النظام بخير. ترتفع درجات التململ يوميا في غياب أي أمل لتحسن الأوضاع قريبا، مصر في حاجة لكل عقل قادر على إقالتها من عثرتها أيا كان انتماؤه وهذا يلزمه مجال عام مفتوح وقدرة أكبر من جانب الناس على التنفس، هذا في مصلحة النظام قبل غيره، فتحرك الجوعى للطعام أخطر كثيرا من تحرك الجوعى للحرية.