كل الأسئلة الشائكة التى طرحها الأديب كرم صابر فى مجموعته القصصية «أين الله؟» الصادرة عن دار «نفرو»، والتى حكمت محكمة بنى سويف عليه بسببها بالسجن خمس سنوات، فى القضية المستأنفة والمقرر الحكم النهائى فيها 20 أكتوبر القادم، هى أسئلة تكررت فى عديد من الأعمال الإبداعية، بل ولها وجود فى الكتب المقدسة، فالنبى داوود صاحب المزامير يتساءل فى العهد القديم قائلا: «لماذا تنجح يا رب طرق الأشرار؟»، بل ويصرخ «إلى متى تنسانى؟». هو يحتج أيضا موجها حديثه إلى الله فيقول «لعلك للموتى تصنع عجائب، ولماذا تختفى فى أزمنة الضيق؟». كلها وغيرها أسئلة تدور فى العقل البشرى المحدود الباحث عن حكمة الله البعيدة عن الفحص. وهى فى الحقيقة أسئلة قديمة ومتجددة، تدور فى النفوس الحائرة، لا تدل أبدًا على الإلحاد أو الكفر، بل تعبر عن مشاعر قلقة ومتوترة تقودها الأزمات الإنسانية المتكررة، والتى يحاول رجال الدين فى كل الأديان تقديم إجابات شافية لها، تكون أحيانا مبررة للآلام، وكاشفة لسر أوجاع البشر. وإذا كان دور رجال الدين يتمثل فى تقديم إجابات، فإن دور رجال الأدب هو طرح الأسئلة، وهذا ما فعله كرم صابر تحديدا فى قصص مجموعته والتى تصدم القارئ لاحتوائها على عدد ملغم من هذه الأسئلة، فالمجموعة تضم 11 قصة، تثير أحداثها وأشخاصها حالة من الفوران والغضب من عدم الفهم لانتشار الظلم والآلام بصور متعددة، فتطرح قصة لغة الأحاسيس مأساة أصم أبكم جاء على لسانه قول «حين كان الأولاد يعيروننى بقطع لسانى، والرجال على المقاهى يضحكون كنت أنظر للسماء حزينا وأعاتب الرب الذى خلق كل شىء بحكمة وعدل وحرمنى نعمة النطق والسمع، وأسأله لماذا حرمتنى التعبير مثل باقى الناس عما تجيش به نفسى؟. كنت أعاتبه وأعود للمنزل سريعا لأنه حرمنى سماع سخرية الناس لأرد عليهم لأقول لهم كما قالت جدتى لا اعتراض على مشيئته». فهذا التساؤل ينتهى كما يحب رجال الدين بالتسليم بالمشيئة، ولكن هذا التسليم لا يعنى أن السؤال غير مطروح؟. وفى قصة «الميراث» يناقش كرم صابر موضوع تقسيم الميراث حسب الشريعة الإسلامية وهى قضية تثار من حين لآخر، خصوصا فى جزئية حصول الذكر على حق مضاعف عن الأنثى، وذلك من خلال حالة عواطف التى ظلت تخدم إخواتها طوال عشرين عاما بكل حب وعندما أصبحت أرملة ثم توفى والدها رفض إخواتها أن تسكن فى شقة والدها، وكان نصيبها الشرعى نصف حجرة، الأمر الذى أدى بها إلى الهذيان والجنون وهى لا تصدق أن الله يفرق بين الإخوة، حتى حرقت نفسها. أما فى قصة «معروف» نجد شخصية المصرى الطيب الذى يعبد الله بالقلب، لا بالمظهر، ويقابل مَن يذهبون إلى المساجد بسخرية قائلا: «الله فى كل مكان ولا يهمه أن تجتمعوا بالجوامع لتصرخوا، فمقابلته لا تحتاج لكل هذا الاحتفال»، ويناقش معروف شيخ الجامع حول حسية الجنة ولماذا لا تتمتع فيها النساء كما يتمتع الرجال بالحور، بينما تقدم قصة «ورقة المأذون البالية» نقدا لفكرة الزواج الذى يخلو من الحب ويقوم فقط على ورقة المأذون، دون أسس الحب. ويعود الكاتب إلى مرفأ روحى رائع يمثل نموذجا للحب الإلهى، الذى يكرس الاتجاه الصوفى فى قصة «الحب الإلهى» التى تقدم نماذج لشخصيات بسيطة تذوب فى حلقات الذكر، معتبرين أن بيوت الله داخلهم، ولا يحتاج المؤمن إلى الاغتسال لأن القلب الطاهر نظيف دائما. هذه الصوفية القريبة إلى نفوس المصريين حيث الدين حالة حب لا رعب ولا تخويف. ومن جديد تعذب الكاتب فكرة غياب العدالة عن البشر، الأمر المؤلم فى قصة «الشيخ طه» أن نجد مقارنة بين لص أصبح سيدا فى المجتمع، وفى عالم السياسية، والشيخ طه العامل المسكين الذى يرعى أخاه المريض وأمه التى تعانى الفشل الكلوى، وعندما يطلب مساعدة اللص الذى يترشح فى الانتخابات عن حارتهم لا يجد إلا أكاذيب، فتحرقه المقارنة بين أمانته وقيامه بالصلاة والصوم والفروض، وهذا الشرير، فينتحر بإلقاء نفسه فى الصرف الصحى، وهى مقارنة تعذب كثيرين بشكل يومى، ولكنهم لا ينتحرون. وعلى النهج ذاته ينسج كرم قصة «الفقرى»، راصدا الأشخاص المغفلين، أو ضعاف العقول، والذين يتعرضون لمواقف نتيجة لغياب حكمتهم أو أطماعهم، وينتظرون أن يتدخل الله لإنقاذهم، ويبدو أن قانون الكون مثل القانون الأرضى لا يحمى المغفلين؟. أما قصة «ست الحسن» فهى فجة جدا، ولكنها تدور فى حلم طفل يظن أن الله سوف يأخذ حبيبته لنفسه، والمعروف أنه لا يمكن أن نحاسب طفلا ولا مجنونا سواء فى الواقع أو فى الأدب. نجد أن كرم صابر يحاكم بتهمة الإلحاد والدعوة إليه، فهل تدعو قصصه فعلا إلى الإلحاد، وهى تبحث عن يد الله لكى تقيم العدل وتعطى المظلوم؟. أليس هذا هو مبتغى الصلوات كلها، حتى وإن كان يكتبه بلغة الأدب؟! فى ختام المجموعة يتساءل القاص فيقول «كيف تركنا إلهنا الرحيم ليتحكم فينا هؤلاء المتوحشون والشيوخ الذين لا يملكون إلا الحديث عن القبح والغل والكره والنار والشياطين لينزعوا منا التسامح؟ اليوم أعتقد أن الله الجميل يرانى ويسمعنى لأنى أراه وأسمعه وسوف يعود مرة أخرى لينزع من قلوبنا هذه الكتل الخرسانية ليترك مكانها خاليا وينشر فى روحنا البراح.. يا رب لا تخذل دعاء عبد آمن بك».