إنه شاب رائع فى كل شىء.. هكذا كان وما زال انطباعى عنه، لكنه قبل أيام فاجأنى عندما أخذنا الكلام إلى عمق أبعد قليلا من الحديث العابر الذى ظللنا نتبادله منذ تعرفت عليه قبل نحو عامين، إنه بكل أسف مصاب بهذا الداء العقلى الذى لا أعرف كيف أصاب قطاعا لا بأس به من أجمل وأنبل وأشجع شبابنا وجعلهم لا يدركون ولا يستطيعون ملامسة الفوارق الهائلة بين أشياء ومعانٍ قد تكون متجاورة؟! غير أنها قطعًا ليست متماثلة ولا متطابقة، وأحيانا هى متناقضة تماما.. يعنى مثلا، من أخطر أعراض هذا الداء وأكثرها شيوعا الآن، ذلك التجريد المتعسف والمريع ل«الثورة» من كل ما يخص أهدافها، ومن ثم تحويلها فى عقول نسبة كبيرة من الثوار الشباب إلى شىء يشبه «مهرجان تمرد» دائما يكاد يكون منزها عن أية غاية ومقطوع الصلة عن أى هدف، وإنما هو حفنة أفعال احتجاجية مبجلة ومقدسة لذاتها.. هكذا وخلاص!! لقد كان هذا المفهوم الخاطئ والمشوه لمعنى «الثورة» واحد من أهم العوامل التى سهلت لجماعة الشر الفاشية الإخوانية مهمة نشل واختطاف ثورة 25 يناير، لأن كثيرا من شبابنا الثورى البرىء لم يكن يحفل أو يميز بين المؤمن الحق بأهداف هذه الثورة وشعاراتها الراقية النبيلة (عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية) وبين صنف من الجماعات والعصابات هم بحكم عقائدهم المنحرفة وعقولهم المظلمة وتكويناتهم التنظيمية المغلقة القاسية، غرباء عن كل هذه الشعارات، بل هم فى الواقع يكرهونها ويناصبونها أشد العداء.. لقد كان اهتمام هؤلاء الشباب الثورى البرىء مُنصَبًا كله على: من الذى حضر إلى ميدان التحرير ومن الذى لم يحضر؟ أما تصنيف الحضور وفرزهم على مقياس الأهداف الثورية فقد بقى غائبا ومهملا، وربما لم يعبر أفق خيالهم أصلا! قلت فى الفقرة الأولى من هذه السطور إننى «لست أعرف» كيف أصاب هذا الداء عقول بعض شبابنا الرائع، غير أننى فى الحقيقة «أعرف» ولهذا أتعاطف جدا معهم وأقاوم الضيق والحنق والغضب من تصرفات ومواقف بعضهم التى قد أراها أحيانا ليست عبثية وعدمية أو فوضوية فحسب، وإنما مضرة ومؤذية جدا أيضا.. فأما السبب الذى أعرفه وأرجح أنه سر الإصابة بداء حاولت وصفه فى السطور السابقة فهو باختصار، أن أجيالا من أبناء هذا الوطن شبت وشابت فى بيئة مسمومة بالبؤس المادى والعقلى والروحى وعاشت على أرض مجتمع تصحَّر وتجفف من السياسة والثقافة حتى تشقق وشاعت فيه مظاهر الفساد والخراب، لذلك بدا شبابُنا الخارج من هذا الرحم المجدب القاسى وقد حقق معجزة أسطورية بكل المقاييس عندما فاجأ الدنيا بأنه محتفظ بفطرته السليمة ويختزن تحت الركام قدرة عظيمة على اجتراح البطولة ومقاومة تحويل التخلف والظلم والبؤس الشامل إلى قدر لا فِكاكَ منه.. هل لهذا علاقة بأنهم أبناء شعب تمتد جذور تحضُّرِه إلى أعمق وأبعد نقطة فى بحر التاريخ الإنسانى؟! يجوز، لكن الأكيد أن شباب مصر حاضر ومؤهل لصناعة المستقبل الذى حلم به أمثالى طويلا، وأن يبنى الوطن الجديد الذى أنفقنا أغلب عمرنا ونحن نمنِّى النفس برؤيته مزدهرا متقدما حرا وجميلا.. شىء واحد فقط أظنه ينقص شبابنا، هو أن يتواضع قليلا ويعترف بنقص «المعرفة».. وأُكمل غدا.