«ألف ليلة وليلة» عمل تراثى مدهش ويستحق عن جدارة أن نعتبره أول محاولة جادة للرواية بمفهومها الواسع، فإذا كان النقاد قد اعتبروا أن «دون كيخوته» أول رواية عرفها الإنسان، فإن «ألف ليلة وليلة» أول رواية كتبتها حضارات وشعوب مختلفة، وشاركت فيها أسماء لا نعرف عنها شيئا، ولعل آخر إسهام فى هذا المشروع الضخم هو ما قدمه العظيم نجيب محفوظ فى روايته «ليالى ألف ليلة»، والذى استخدم فيها نفس تقنية ألف ليلة وليلة من حيث الاستفادة من العوالم الغيبية كعالم الجن والعفاريت والملائكة، كما أنه أعاد استخدام الشخوص ك«شهريار وشهر زاد والسندباد البحرى وعلاء أبو الشامات» وباقى الشخصيات التى تعيش فى عالم يقع بين الواقع والخيال، أضف إلى ذلك الشكل الدائرى الذى اتسمت به الرواية كى تنتهى بك من حيث بدأت لتجد نفسك قد خرجت سالما من متاهة الحكايات المذهلة.. ونحن لو تحدثنا هنا عن رواية «ليالى ألف ليلة» فنحن سنكون بصدد دراسة تستحق كتبا كاملة، لذلك فسيقتصر كلامنا على شخصية واحدة من الرواية، وهى شخصية السندباد ذلك الحمال البسيط الذى يضجر من الحياة العادية، ومن الواقع، فيقرر أن يرمى بنفسه فى عرض البحر والمجهول، ورغم النصائح والتحذيرات فإنه يرى أن الواقع لن يتغير سوى بالمخاطرة والتجربة، وأن العمل كحمال لن يحمل له جديدا فى المستقبل، على العكس، ستضمر العضلات يوما، ويتداعى البنيان، وتخور القوى فيفقد عمله.. ويخرج السندباد من مقهى المدينة إلى البحر، وتعيش المدينة فى سلسلة من الحوادث الغريبة، ويسقط أهل المدينة فريسة تلاعب العفاريت ومكر الغير والتحايل، ويعلو شأن ناس وينحط شأن ناس، وتدور الدنيا فيرى السلطان شهريار حكايات شهر زاد وهى تتجسد أمامه، بل ويصبح هو نفسه جزءا من تلك الحكايات، فيعرف للدنيا وجها آخر، ويعانى من توبة تكاد تكون نصوحة، وتمزقه الحيرة فيغرق فى تساؤلاته الوجودية.. ويعود سندباد فى نهاية الرواية حاملا لأهل المدينة الهدايا النادرة والعجيبة وحاملا للسلطان تجربة فريدة، ويقدم عمنا وعم أعمامنا نجيب محفوظ تلك التجربة فى حوار بديع بين السندباد والسلطان شهريار.. فماذا جرى لسندباد؟ فى رحلته الأولى تتحطم السفينة، فيتعلق هو ومن معه بلوح خشب عملاق ويجدف حتى يصل إلى جزيرة سوداء، ينزلون عليها، ويستقرون بها، ويتجولون فيها فتتحرك الأرض تحت أقدامهم، ويظنون أنها تغرق غير أنهم يكتشفون أنها لم تكن أرضا ولا مستقرا ولكنها فى الحقيقة حوت ضخم، ويقول السندباد للسلطان: «تعلمت يا مولاى أول ما تعلمت أن الإنسان قد ينخدع بالوهم فيظنه حقيقة». وهذا ما حدث معنا، حين قررنا أن نتوقف عن حمل الأحمال، وأن ننظر إلى المستقبل ونعيد حساباتنا، وأن نجازف ونرمى بأنفسنا فى حضن المجهول، وكان الاستقرار الكاذب هو أول وهم نصادفه فجاءت معركة عجلة الإنتاج، ثم معركة الدستور أولا، وراح الشعب ضحية وهمه. وتساءل السلطان: «وكيف نفرق بين الوهم والحقيقة؟» فقال السندباد بعد تردد: «علينا أن نستعمل ما وهبنا الله من حواس وعقل». ويسبح السندباد فى البحر حتى يصل هو ومن معه إلى جزيرة أخرى، ويهده التعب فينام على صخرة بيضاء ملساء وحين يستيقظ يكتشف أن هناك سفينة جاءت وأخذت أصحابه فبقى هو وحيدا... «تعلمت يا مولاى أيضا أن النوم لا يجوز إذا وجبت اليقظة». ونحن أيضا تعلمنا أن التخاذل والنوم وقت الجد قد يقضى على أحلامنا، وتركنا الميدان لجمعة قندهار، وتكدسنا أمام شاشات التليفزيون لمتابعة جلسات محاكمة الفلول فى الوقت الذى كان غيرنا يستعد لمعركة الانتخابات البرلمانية والشورى والرئاسة. ويحالفه الحظ فيكتشف أن الصخر ما هى إلا بيضة عملاقة لطائر مهول يُسمى طائر الرخ، ويستطيع هو بذكائه أن يسخره لنفسه فيطير به بعيدا ويرمى به فى جزيرة جديدة، وفى هذه الجزيرة يستقبله الحاكم بترحاب، ويغدق عليه هو وغيره بالطعام والشراب، فينشغل الجميع ببطونهم أما هو فلا يأكل إلا ما يبقيه حيا ويقظا، وتدور الأيام، ويأتى الحاكم، ويأخذهم جميعا إلا السندباد، وقد أصبحوا براميل من الدهن واللحم، ويجلس السندباد وحيدا، ويضربه الملل فيتسلل كى يرى ما يفعل بهم الحاكم، فيرى الحاكم وهو يشوى أصحاب السندباد ويأكلهم. ويقول شهريار للسندباد: «الملك أيضا فى حاجة للورع». ونحن كذلك جاءنا حاكم أراد أن يأكلنا بالزيت والسكر والطعام، ترك له الغافلون الحكم من أجل شهوة البطن فكادوا أن يلاقوا نفس مصير أصحاب السندباد. ويقول السندباد: «تعلمت يا مولاى أن الإبقاء على التقاليد البالية سخف ومهلكة»، فقد غرقت سفينته وهى فى طريقها إلى الصين، وحط هو ومن معه على جزيرة، ونال من حاكمها وأهلها المعاملة الطيبة حتى إنه تزوج منهم وتزوج صديق له، وماتت زوجة صديقه فقتلوا صديقه أيضا ودفنوه معها وذلك هى عاداتهم، فما كان من السندباد سوى الهرب بحياته بعد مرض زوجته. وما أكثر ما عشناه فى الفترة السابقة من معارك يريد بها الجانب الآخر أن يجبرنا على عادات عفا عليها الزمن، من إرضاع للكبير، وزواج الصغيرات، ونكاح المجاهدة، وغيرها من الأشياء التى لا تناسب عصرنا ووقتنا وتعطل مستقبلنا! وفى جزيرة مهجورة يجد السندباد نفسه وحيدا لأول مرة، وفى أثناء تجواله يعثر على كهل عجوز، ويطلب منه العجوز أن يحمله حتى يشرب من النهر، ويحمله السندباد بالفعل، وما إن يستقر العجوز على كتفه حتى يكتفه برجل من حديد، فيكتشف السندباد أنه وقع أسيرا تحت رحمة عفريت محتال، ويرفض العفريت أن يتركه فيصبح السندباد عبدا عنده لا يهنأ بنومه ولا بلقمة حتى يعصر له العنب فى يوم ويخمره فيشربه العفريت وتترخى عضلاته فيسقط على الأرض، وهنا.. يلتقط السندباد حجرا ويهشم به رأس العفريت.. لماذا؟ حتى ينقذ رجالا غيره.. هذا هو العدل. ونحن أيضا أخرجنا العفريت من سجنه، وتعاطفنا معه ومع فصيلته حتى كاد أن يتخذنا عبيدا، ولولا العقل والإرادة لما عاد إلى سجنه.. ولنا فى تلك الحكاية عبرة أخرى.. حيث إنه لا تصالح ولا تعاطف مع الماكر المحتال، لأنه لن يتوقف عن خبثه. وفى الرحلة الأخيرة، يتزوج السندباد فى جزيرة، ويصنع أهل الجزيرة جناحين من الريش، ويكون هو المنوط بتلك التجربة، فتقول له زوجته: «احذر أن تذكر اسم الله وأنت فى الجو وإلا احترقت»، فيعرف السندباد أن دماء الشيطان تجرى فى عروقهم ويستعين بالله ويطير فى الهواء ليكون أول إنسان يرى الدنيا من أعلى، وينعم بالحرية.. وفى هذه الرحلة الأخيرة يرد نجيب محفوظ على الأغبياء الذين حاولوا قتله، ولم يفهموا فنه يوما، وأنه لا يرى له نجاة سوى بإله يرعاه فى رحلته الأخيرة.. فكيف يكون كافرا إذن؟