تحتفل مصر وقناة السويس، اليوم الجمعة، بالذكرى ال60 لانتصار رجال القناة وإجهاض مخطط بريطاني فرنسي لغلق المجري الملاحي بدعوى عجز المصريين عن تشغيله تمهيدا لإعادة احتلال منطقة القناة، والسيطرة من جديد علي قناة السويس بعد التأميم وطمعا في الإطاحة بالزعيم جمال عبد الناصر، الرئيس الشاب الذي سبب صداعا قاتلا لرئيس وزراء بريطانيا لم يلبث أن قضي عليه. المؤامرة كما يسجلها تاريخ القناة، وكما يحب المصريون أن يصفونها بمسمياتها رفع عنها الستار رسميا في ١٣ سبتمبر ١٩٥٦، وبعد اقل من شهرين من تأميم مصر لقنالها عندما أخطر الفرنسي بول ريموند مدير إدارة الملاحة بقناة السويس المهندس محمود يونس، قائد عملية تأميم المجرى الملاحي، والمشرف على إدارته آنذاك، أخطره بقرار الانسحاب الجماعي للمرشدين الأجانب البالغ عددهم ٢٠٧ مرشدين، بحجة استيائهم من معاملة الإدارة الجديدة. القرار وصياغته جاءا بناءً على تعليمات إدارة الشركة في باريس وبإيعاز منها، إذ كانت الإدارة الأجنبية تعتقد أن المصريين لن يستطيعوا إدارة القناة بمفردهم، وأن سحب المرشدين والموظفيين الأجانب دفعة واحدة سيؤدي إلى توقف الملاحة في القناة، وبذلك تعتبر للحكومة المصرية أخلَّت صراحة باتفاقية القسطنطينية، التي تنص على ضمان استمرار الملاحة لكل الجنسيات في المجاري المائية العالمية، وكان المخطط أن تفرض بريطانيا وفرنسا إرادتهما على مصر بالقوة، وأذهبت للتدخل المسلح في مصر بقوات عسكرية بحجة إعادة الملاحة في القناة، وهو ما حدث بالفعل. قامت إدارة الشركة بالتنبيه على جميع الإنجليز الموجودين بالقناة بالانسحاب، وكانوا يتقلدون المناصب الرئيسية مثل المهندسين في الورش، والمرشدين على المراكب، ومكتب الحركة الذي ينظم حركة السفن في القناة، وهددت بعدم إعطائهم أية معاشات أو مكافآت أو مستحقات حال رفضهم الانسحاب. جزء من سياسات تخريب شركة قناة السويس قبل التأميم وانتهاء الامتياز، كان بإبعاد المصريين تمامًا عن مراكز القيادة والمناصب الرئيسية حتى لا تستطيع إدارة المرفق عند استلامه، فكان المصريون العاملون بقناة السويس قلة، وفي مناصب دنيا، ولا يوجد مصري واحد في مركز اتخاذ القرار. لكن فريق العمل الذي شكله المهندس محمود يونس عندما كُلف بالتأميم، كان يحوي عناصر مخابراتية على دراية بمنطقة القناة، وبعد نجاح عملية التأميم قامت بمهمة متابعة محيط أعمال الشركة التي لم تقم الإدارة الجديدة بتغيير موظفيها وأغلبهم من الأجانب لحاجة العمل لهم من جهة والاتزامها المعلن بعدم الاستغناء عن العاملين من جهة أخرى. لكن خطة بديلة دخلت طور التنفيذ بعد أيام من إنهاء استلام مرافق المجرى المائي؛ لوضع بدائل للأزمات المحتمل مواجهتها والتي قد تهدد بتوقف الملاحة مثل غرق قطع بحرية في الممر بشكل متعمد لتعطيل الملاحة، ولو لأيام تظهر فيه مصر عاجزة عن تشغيل القناه بشكل آمن، ووضعت قطعًا حربية في حالة استعداد عند مداخل القناة الشمالية والجنوبية؛ للتعامل مع أي محاولة تخريب المجرى الملاحي. تقارير عناصر المخابرات من داخل الشركة، أشارت إلى غياب المرشدين الأجانب الذين كانوا في إجازات ببلادهم ولم يعودوا في الموعد المحدد، فيما بدأ المتواجدون في بيع أثاث منازلهم وسياراتهم تمهيدا للمغادرة، ولكن دون أن يخطروا الشركة وفي 26 أغسطس 1956، بلغ عدد المرشديين المتغيبين 59 مرشدا. ومثلما وضعت خطة التأميم ونفذت في 50 ساعة، وضعت خطة لتدريب وتجهيز مرشدين مصريين خلال 4 أسابيع، وكان التحدي هو عدم كسر إرادة مصر بإغلاق القناة ولو ساعات. كما أوضح المهندس محمد عزت عادل، ثالث من قادوا عملية التأميم، وتصدى لأزمة المرشدين مع رفاقه، فقد استدعت المخابرات مهندسين من البحرية المصرية، ودفعت بهم لدورات مكثفه للتعرف على خصائص الممر الملاحي، وطرق إرشاد السفن داخله. وعلى محور موازٍ، نشطت المخابرات في البحث عمن يمكن استمالته من المرشدين الأجانب؛ للاستمرار في العمل، فكان اليونانيون الجنسيه الوحيدة التي رفضت المشاركة في المؤامرة ضد القناة، فيما استمر 7 مرشدين من جنسيات أخرى عندما وقعت الأزمة. يقول عزت "قمنا بالإعلان في الصحف الأجنبية عن طلب ملاحين ومرشدين القناة، وتقدم أجانب قمنا بقبولهم وتدريبهم على شكل سريع فقد كنّا نستبق الزمن. وفي ليلة ١٤-١٥ سبتمبر، نفذ المرشدون الأجانب المؤامرة، وانسحبوا دفعة واحدة مع الموظفين والعمال الأجانب ماعدا اليونانيين، فلم يبق في جهاز الإرشاد إلا 52 مرشدًا من 207، وانسحب مع المرشدين 326 موظفا فنيا وإداريا من أصل 805 موظفين، وجلس بعضهم في النوادي المطلة على مياه القناة، وبجوارهم مراسلو الصحف الأجنبية الذين تجمعوا ليسجلوا الحدث المتوقع بتوقف الملاحة في قناة السويس. ودفعت الإدارة الجديدة بالمرشدين الجدد - عددهم ٦٨ مرشدا منهم ٥٣ مصريا و٦ يونانيين و٧ من جنسيات أخرى ( ٣ ألمان وإيطالي وسويدي وأسباني) - كما عوضت غياب المهندسين والموظفين بعناصر من البحريه لحين استكمال تعويض الموظفين المنسحبين. أمام مدخل القناة الشمالي عند بورسعيد، اكتملت فصول المؤامرة بتجمع نحو خمسين سفينة تندفع في اتجاه القناة بشكل جماعي في محاوله لإرباك المصريين، وإظهار عجز إدارة جمال عبد الناصر في أول اختبار لقراراته الثورية التي صدمت العالم، وحركت تيار الثورة في كل المنطقة، وفي إفريقيا من أجل الاستقلال. وعبرت ٤٢ سفينة في اليوم الأول، دون أي عائق، وتوالت الأيام والعمل في القناة على ما يرام حيث لم يقع أي حادث، ولم تتوقف الملاحة، ولم يتعطل المرور، وتصدى لقيادة أول سفينة الشاب علي نصر، وكان عمره ٢٦ عاما، وعندما صعد للباخرة سأله رُبَّانِها "هل لديك خبرة في قيادة هذا النوع من السفن؟" فأجابه "لا، هذه أول مرة في حياتي أقود سفينة على الإطلاق!".
ويتذكر نصر "لم أكن أرى الطافيات الملونة وسط المياه، كنت متوترا وقلقا لأن الفشل كان سيضر ببلدي وسمعتها، كنّا جميعا ننظر للقناة على أنها ساحة معركة لابد أن نكسبها". ورويدا رويدا، بدأت رحلة السفينة وخلفها باقي القافلة يقودها المرشدون المصريون واليونانيون، وعلى أحد جوانب القناة، نظر المرشدون لرجل يرتدي بدلة يقف على الضفه ينادي عليهم بأسمائهم، وكان عرض القناة لا يزيد عن 100 متر آنذاك، ونظروا فوجدوا المهندس محمود يونس وبجانبه الرئيس جمال عبد الناصر، يلوح لهم بعلامة النصر. ووقف الرئيس عبد الناصر يوم ١٥ سبتمبر ١٩٥٦ خلال الاحتفال بتخريج فوج من الضباط الطيارين، وأشاد برجال القناة من المرشدين والتحركات وجميع العاملين قائلا: "اليوم باسم الشعب وباسم كل فرد من أبناء مصر، أهدي إلى هؤلاء الرجال وسام الاستحقاق المصري من الشعب المصري". وأضاف "إنني فخور، اليوم هو أول يوم لتنفيذ المؤامرة الفرنسية والإنجليزية في قناة السويس، وصلت ٥٠ سفينة مرة واحدة واستطاع المرشدون المصريون واليونانيون أن يقوموا بالعمل كله في القناة، اليوم نثبت للعالم أجمع أن المصريين تمكنوا من أن يواصلوا العمل في القناة بعد أن سحبت بريطانيا وفرنسا جميع المرشدين الأجانب من القناة". ومنذ التأميم حتى سحب المرشدين، عبرت القناة ٢٤٣٢ سفينة بسلام وأمان، منها ٣٠١ بعد الانسحاب الجماعي للمرشدين، والذي أصبح عيدًا سنويًا للمرشدين الملاحين المصريين. وكما كتب إيزنهاور في مذكراته "وكما اتضح فيما بعد فإن المسؤولين والعمال المصريين لم يكونوا على كفاءة في إدارة القناة فحسب، بل أنهم سرعان ما أثبتوا أنهم يمكنهم أن يفعلوا ذلك في ظل ظروف زيادة الدور وبمقدرة متزايدة". وفي ١٧ سبتمبر ١٩٥٦، وجهت الحكومة المصرية مذكرة لمجلس الأمن، تحتج فيها على سحب الدول الغربية المرشدين، وكررت اقتراحها بتأليف هيئة دولية لتسوية أزمة قناة السويس. ولاقى الاقتراح المصري تأييد 21 دولة، ما أكد فشل المخطط الأول للتدخل واحتلال القناة، فتحركت بريطانيا وفرنسا قدما في باقي المخطط الذي اكتمل بالعدوان الثلاثي على مصر بعد أسابيع من فشل مؤامرة سحب المرشدين الأجانب.