هل يُعقل فعلًا أن يقع مَن ينادون بالمثل العليا مثل الحرية والديمقراطية وكرامة الإنسان، هل يُعقل أن يقع هؤلاء فى فخ المنفعة الشخصية لدرجة حماية الإرهاب والتحالف معه؟ لم نفهم وقتئذ هذا التصريح الغريب الذى صدر من «الأخ» زبيجنيو بريزنسكى مستشار الرئيس كارتر لشؤون الأمن القومى عام 1980، عندما قال وقت بذوغ الإرهاب «الصحوة الإسلامية لا تخيفنا بل نحن نرحّب بها» (جريدة «بارى ماتش» عدد 2 مايو 1980 صفحة 36). إذن النية كانت مبيتة فى سياسة ال«سى.آى.إيه»: بمساندة «الصحوة» الإسلامية بمعناها الإرهابى لا بمعناها الراقى. وهل لهذا التصريح أى صلة بالتدخّل المذرى للولايات المتحدة، ثم التدخل المهذب للمجموعة الأوروبية فى شؤوننا الداخلية الحيوية؟ أم علينا أن نعتبرهما تطوّعًا مجانيًّا مشكورًا لحل مشكلاتنا؟ فى ما يتعلق بالمجتمع الأوروبى، الذى عاصرته طيلة 35 سنة فى إطار التزاماتى، يمكننى استخلاص أربعة أسباب وراء قلقه بسبب ما يدور فى مصر وبالذات بعد ثورة 30 يونيو. السبب الأول هو عقدة الذنب لدى المستعمرين السابقين عما فعلوه فى الماضى البغيض عند احتلالهم بلادًا وقهر أهاليها واستغلال مواردها وفرض ثقافاتها عليها. لذلك وبعد الحرب العالمية الثانية فتحت أوروبا أبوابها لضحايا استعمارها وجعلوا منهم مواطنين متساوين فى الحقوق والواجبات مع الآخرين. لذلك تجنّبت الحكومات والشعوب هناك مهاجمة أو نقد دين أو تقاليد المواطنين الجدد الذين وصل تعدادهم إلى عشرة ملايين مسلم فى فرنسا مثلًا، وإلى ستة ملايين فى ألمانيا، إلخ.. ضف إلى ذلك -وهو السبب الثانى- أن الأوروبيين يرعبهم اتهامهم بالعنصرية، لذلك يتجنبون السخرية من اليهود أو توبيخ أى عربى أو مسلم لمسلك ما صدر منه، فما بالك لو كان الشخص عربيًّا عرقًا ومسلمًا دينًا؟ بل وصلت خشية الإساءة إلى المسلمين أو خدش كرامتهم لدرجة مرضية، حتى يمكن تطبيق مقولة الناقد الساخر جورج برنارد شو «ليست هناك ديكتاتورية أسوأ من التى يمارسها الضعيف على القوى». لذلك نفهم السبب الثالث وهو رعونة بلاد المهجر وخطورة فتح أبوابها للوافدين إليها دون فحص سابق، فيتغلغل رويدًا رويدًا فى صفوفهم ناشطون إسلاميون متطرفون سمّموا أفكار مَن سبقوهم من المسلمين السلميين، وقد حدث أن فاتحنى بعد محاضرتى أحد الحضور بمشكلته وهو طبيب فرنسى مسلم جزائرى الأصل، بالآتى: «أسست مجموعة من أمثالى فى شبكة (الليونز) وكنا نبحث تعميق اندماجنا فى المجتمع الفرنسى، فاتصل بى أحدهم وهدّدنى بالقتل إن لم أحوّل مجموعتى لفصيلته الإسلامية. بماذا تنصحنى؟»، أدركت حينئذ أن هناك قنبلة موقوتة فى أحضان فرنسا. أما عن السبب الرابع لتدخّل أوروبا بهذا الأسلوب غير المقبول فى شأننا المصرى، فيتعلّق بأمنها القومى. فمن ناحية قد يعنى تأييدها لثورتنا المبهرة هجومًا على الإسلام كدين فى نظر مواطنيها المسلمين، مما قد يشعل القلاقل التى قد تؤدى إلى إرهاب داخلى، وهو الأمر الذى يجب التصدى له بصرامة. كما أن الغرب قد يكون مفزوعًا من التجربة المصرية، حيث استطاع الشعب بقوته الذاتية تغيير نظامين سياسيين متتاليين فى ثلاث سنوات ونصف السنة مع استمالة الجيش إلى صفوفه. لذا يصعب على الغرب عمومًا «أمريكا أولًا ثم أوروبا» أن يعترف بأن ما حدث عندنا إنما هو ثورة حقيقية لا انقلاب. ولما كانت هناك مصالح مشتركة بين أوروبا وأمريكا، استراتيجية كانت أم اقتصادية، وتجميعًا لكل القرائن من زيارات وتصريحات وملابسات تستطيع أن تستنتج أن الغرب قد أبرم دون خجل صفقة مع التنظيم العالمى للإخوان المسلمين يمكن التعبير عنها كالآتى: «حلّوا عنا بإرهابكم ومارسوه كما تشاؤون فى منطقتكم وسنساعدكم بالمليارات ونبقى حبايب، بس حلّوا عنا». ولما كان الأمر كذلك فلا يسعنا سوى أن نقترح إيفاد بعثات توعية قومية إلى أهم عواصم أوروبا لعرض الواقع المصرى هناك برعاية سفاراتنا على أن تكون كفيلة بالرد على ما قد يوجّه إليها من أسئلة الجماهير. هذا ما أعرفه شخصيًّا ولا بد أن هناك أسبابًا أخرى لسياسة الغرب نحونا. والباب مفتوح للمناقشة، فالأمر معقّد وخطير وينبغى دراسته بدقة.