تعكف الحكومة البريطانية حالياً على وضع خطط تستهدف التضييق على الجالية الاسلامية، من خلال تصنيف أبنائها إلى "معتدلين" و"متطرفين"، فى اطار استراتيجيتها المزعومة الرامية إلى مكافحة الارهاب، الأمر الذى قد يعطى نتائج عكسية تماماً، ويصب فى مصلحة تكريس ظاهرة العداء للاسلام "الاسلاموفوبيا" المنتشرة حالياً فى أوروبا والولاياتالمتحدة الأميركية واضفاء شرعية رسمية عليها. الاستراتيجية الجديدة هذه، التى ستعلن فى الشهر المقبل رسمياً، وقد تتحول إلى قوانين ملزمة تعزز قوانين الطوارئ التى دخلت حيز التنفيذ فعلاً، تضع جميع أبناء الجالية الاسلامية البريطانية، وعددهم يفوق المليون ونصف المليون، تحت المراقبة وفى قلب دائرة الشكوك، وسيعتبر متطرفاً، وفق تصنيفها، كل من: يطالب باقامة الخلافة الاسلامية أو توحيد الأمة الاسلامية تحت راية دولة واحدة. ينادى بتطبيق الشريعة الاسلامية ويروج لها. يؤمن بالجهاد، أو المقاومة المسلحة فى أى مكان فى العالم بما فى ذلك الكفاح المسلح لتحرير فلسطين فى مواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية الجبارة. يجادل بأن الاسلام يحرّم الشذوذ الجنسي، وان من يمارسه يرتكب خطيئة يعاقب عليها الخالق جلّ وعلا. يرفض ادانة قتل الجنود البريطانيين فى العراق وأفغانستان. والتطرف هنا هو كلمة ملطفة ل "الارهاب"، وكل من تلصق به هذه التهمة، قد يعامل معاملة الارهابى فى المطارات والموانئ والمعاملات الحكومية، وربما يتعرض للاعتقال باعتباره يشكل خطراً على الأمن. فقوائم الارهابيين المحتملين التى أعدتها وزارة الأمن الداخلى الأميركى تضم أكثر من مليون شخص غالبيتهم الساحقة من المسلمين، ويتعرضون لأبشع الاهانات فى المطارات الأميركية، وكاتب هذا المقال أحدهم. ان مجرد التفكير بمثل هذه الخطط، ناهيك عن تطبيقها، يكشف عن نظرة عنصرية تمييزية راسخة ضد المسلمين فى بريطانيا، تذكرنا بمحاكم التفتيش فى أوروبا، والمكارثية فى الولاياتالمتحدة الأميركية، لأنها تجعل من كل مسلم متهماً وعليه ان يثبت براءته، وتحاكمه بشكل مسبق على أفكاره لا أفعاله، وتلصق به تهمة التطرف، لأنه مارس الحق فى التفكير والتزم بمبادئ دينه وتعاليمه. هذا تدخل سافر فى المعتقدات الدينية والفكرية لمواطنين مسلمين لأن كل ذنبهم انهم مسلمون ويحملون أسماء وملامح غير أوروبية. فالشريعة الاسلامية التى تجرّمها هذه الخطط، وترى ان المطالبة بتطبيقها، أو الترويج لها أحد مبررات الاتهام بالتطرف، هى أحد الأركان الأساسية للعقيدة الاسلامية، حتى ان اساقفة بريطانيين مشهود لهم بالتبحر فى العلوم الدينية، ويحوزون أعلى الدرجات فيها، مثل الاسقف روان ويليامز اسقف كانتربرى الذى طالب بتطبيقها فى بعض الحالات وادخال بعض نصوصها فى القوانين البريطانية، مثل قانون الأحوال الشخصية، وتعرض بسبب ذلك لحملة ارهاب فكرى كادت أن تطالب بصلبه. اما فيما يتعلق بمسألة الشذوذ الجنسى وتحريم الاسلام لممارسته، فهذا لا يعنى ان المسلمين متطرفون، فالدين المسيحى نفسه يعارض الشذوذ ويحرمه، وهناك الملايين من المسيحيين البريطانيين يرفضونه فى وضح النهار، والمشرّع البريطانى لم يقره إلا قبل أربعين عاماً فقط، بينما استمرت الكنيسة فى معارضته حتى يومنا هذا. فلماذا يحق لهؤلاء اخذ كل حقوقهم بما فى ذلك الزواج ولا يحق لآخرين ايا كانت عقيدتهم الاعتراض بطرق ديمقراطية. ولا نفهم لماذا يعارض مسؤولون بريطانيون مسألة المطالبة بالخلافة الاسلامية، ويعتبرونها دعوة للتطرف، فبريطانيا نفسها عضو فى الاتحاد الأوروبي، ويمثلها نواب فى برلمانه، مثلما هى عضو فى حلف الناتو، فلماذا تحرّم على مواطنيها المسلمين ما تحلله لنفسها ولمواطنيها المسيحيين؟ فهل الوحدة الأوروبية حلال والوحدة الاسلامية كفر وزندقة؟ ولعل النقطة الأخطر فى هذه الخطط العنصرية الاستفزازية تلك المتعلقة بالجهاد، وتجريم المقاومة المسلحة حتى فى فلسطين فى مواجهة الاحتلال الإسرائيلى والمجازر الدموية الوحشية التى يرتكبها ضد الفلسطينيين الأبرياء العزل. فهل يريد المسؤولون البريطانيون أن يقدم الفلسطينيون باقات الورود والرياحين لقتلة أطفالهم حتى لا يتهموا بالتطرف؟ الجهاد فريضة على كل مسلم اذا تعرضت أراضيه للاحتلال من قبل قوات أجنبية غازية، والحكومة البريطانية نفسها أيدته ودعمته عندما رفع رايته المجاهدون الأفغان لتحرير أراضى بلادهم من الاحتلال السوفييتي. واستقبلت العاصمة البريطانية قادة المجاهدين استقبال الأبطال عندما حلوا ضيوفاً على حكومتها مثل الشيخ صبغة الله مجددى الذى فرشت له السجاد الأحمر عندما زارها على رأس وفد من المجاهدين فى مطلع الثمانينات. من حقنا ان نسأل الحكومة البريطانية، وأى حكومة أوروبية أخرى قد تحذو حذوها، السؤال نفسه بطريقة مختلفة: ما هو موقفها من أبناء الجالية اليهودية الذين يؤيدون المجازر الاسرائيلية الدموية الأخيرة فى قطاع غزة ويبررونها، وهى التى أسفرت عن تمزيق أجساد 1350 شخصاً، من بينهم 450 طفلاً، هل ستصنف هؤلاء على انهم متطرفون ارهابيون أيضاً يقفون فى خندق دولة ترتكب جرائم حرب ضد الانسانية؟ الجاليات الاسلامية فى الغرب عموماً، وبريطانيا بشكل خاص، تتعرض إلى عملية تحريض خطيرة لم تعد مقتصرة على الأحزاب والجماعات اليمينية المتطرفة، وانما من قبل هيئات حكومية عليا أيضاً، وهذا يتعارض كلياً وللأسف الشديد مع قيم التسامح والمساواة والعدالة والديمقراطية التى تعتبر من صميم الحضارة الأوروبية الحديثة التى يحاول منظّروها نشرها وتطبيقها فى مختلف انحاء العالم، الاسلامى منه بشكل خاص. الاسلام يُستخدم حالياً كفزاعة، أو احدى الأدوات الأساسية التى توظفها الحكومات الغربية لنشر ثقافة الخوف فى أوساط مواطنيها، وبما يعطيها المبررات والذرائع، لحرمانهم من حقوقهم المدنية التى ناضلوا طيلة قرون من أجل ترسيخها، وهى الحريات التى لعبت الدور الأبرز فى النهضة الأوروبية الحديثة فى المجالات كافة. السيدة ستيلا يمنغتون رئيسة جهاز الاستخبارات البريطانية (MI5) أصابت كبد الحقيقة عندما حذرت، فى تصريحات أدلت بها مؤخراً، من تحول بريطانيا إلى دولة بوليسية بسبب تدخل وزرائها فى الحياة الخاصة للمواطنين والتلصص على هواتفهم واتصالاتهم ورسائلهم الالكترونية. فقبل ثلاثة أشهر تقريباً أفاق المجتمع البريطانى على حادثة اقتحام الشرطة مكتب وزير فى حكومة الظل المعارضة، ومصادرة حاسوبه الآلي، وتفتيش مقتنياته، لانه شكك فى الأرقام الرسمية حول معدلات الهجرة، وأمور أخرى، وهى سابقة لم يحدث لها مثيل منذ قرون. ان مثل هذه السياسات التى تقلص من الحريات والحقوق المدنية للمواطن، تلتقى فى نتائجها مع أهداف الجماعات الارهابية التى تقول انها تحقد على الغرب بسبب اسلوب حياته المختلف القائم على الحريات والمساواة والعدالة. ولا نبالغ اذا قلنا انها تخدم الارهاب، وتصعّد موجات التطرف، وتبذر بذور الكراهية والشعور بعدم الانتماء فى أوساط الجاليات الاسلامية الأمر الذى يجعل بعض أبنائها صيداً سهلاً لمن يريدون تحويلهم إلى قنابل بشرية، اللهم إلا إذا كانت الحكومة الحالية تريد تحقيق هذه الأهداف مجتمعة أو متفرقة. هذه الخطط تشكل خطراً كبيراً على أمن المواطن البريطاني، علاوة على كونها انتهاكاً لأبسط حقوق الانسان التى كفلتها المواثيق والمعاهدات الدولية، ولهذا يجب ان تتكاتف كل فئات المجتمع البريطانى للحيلولة دون تمريرها، لانها ستعتبر نقطة سوداء فى تاريخه، ربما أكثر سواداً من نظيراتها الأميركية مثل التعذيب فى سجن أبوغريب، ومعتقل غوانتانامو فى كوبا.