لم يُفصِح الداعون إلى المصالحة مع جماعة الإخوان عن المعنى المُحدَّد لشعار المصالحة. وقد صار من الضرورى أن يكون الكلام محدداً، لأنه يبدو أن لديهم مضموناً آخر غير ما هو رائج لدى الرأى العام، بل إن التوضيح مطلوب أيضاً للعاملين فى المجال العام، وخاصة بعد الرفض العام الحاد والإصرار عليه منذ 30 يونيو 2013 وحتى العملية الإرهابية الأخيرة فى حلوان والتى راح فيها 8 شهداء من الشرطة. المصالحة فى أبسط معانيها، وربما ينطوى التبسيط على بعض الابتسار، أن يتراضى الطرفان على نقاط يَعبُرون بها إلى التقاء بعد فُرقة، وعلى الأغلب فإن هناك تنازلات تُطرَح للتوصل إلى هذا الاقتراب. ومن المفترض أيضاً أن الطرف المخطئ، أو الطرف الأضعف، يتنازل أكثر، وقد لا يتنازل الطرف صاحب الحق، أو الأقوى، إلا بقدر تقبل اعتراف الآخر بأخطائه. الموضوع فى حالتنا غائم، لأن كل طرف من الطرفين لا يزال عند بدء نقطة الصراع: الشعب متمسك بقوة برفضه للإخوان، وهذا واضح منذ 30 يونيو وفى كل جنازات الشهداء ضحايا الإرهاب. وإذا كان الإخوان نجحوا فى إخفاء بصماتهم فى هذه الجرائم أو فى بعضها فإن الجماهير ترى علاماتهم بوضوح. ولا تطلب من الناس فى عالم السياسة أن يأتوا بأدلة دامغة على الاتهام. بل على العكس، فإن قواعد السياسة تفرض على من يعمل فى المجال العام ويُوجَّه له مثل هذا الاتهام الجماهيرى أن يتحمل عبء إثبات البراءة. والحقيقة التى ينبغى الامتثال لها أن التهم تتجاوز جرائم الإرهاب المباشر بالقتل وتشجيعه، إلى جرائم أخرى صار من المستحيل إنكارها بعد التورط فى التباهى بها، مثل ضرب العملة الوطنية والسعى لتجميع الدولارات من العاملين بالخارج لتركيع الاقتصاد الوطنى، ثم تورط شركات الصرافة التابعة لهم فى المؤامرة، أضافة لتشجيعهم العلنى لكل ما يحطم السياحة..إلخ وكل هذا مسجل بالصوت والصورة، وصار يدخل فى باب العلم العام! وأما الإخوان، على الطرف الآخر فيما يقال إنه مسعى للمصالحة، فهم لا يزالون عند نقطة البداية، بل ويتوهمون أن بإمكانهم أن يفرضوا شروطاً! ووصل بهم الأمر، حتى أيامنا هذه، إلى إعلان أنهم لن يرضوا بأقل من أن يعود مرسى إلى الكرسى! بل إلى حدّ أن يعلن واحد من قياداتهم الجماهيرية أنهم درسوا بإمعان، وهم فى سجنهم الأخير، كل قرار اتخذوه منذ ثورة 25 يناير حتى الإطاحة بحكمهم، وقال إنهم لم يجدوا خطأ واحداً! وإن كل قراراتهم لم تكن تبغى إلا وجه الله ومصلحة الوطن والشعب! وأضاف بأن هذا ما التزموا به فى الدفاع عن أنفسهم، فلم يذكروا إلا الحقيقة!! دعْ عنك المبالغة الساذجة وانعدام المنطق فى كلامه، ولا تلتفت إلى مؤشرات الاضطراب لحد العُصاب، ولا إلى توهم أن لديهم الذكاء الفذ الذى يُمكِّنهم من الإقناع، أو التدليس، بهذا الكلام البسيط، ولا افتراض البلاهة فيمن يستقبل الكلام. حاول فقط أن تجد فى هذا المضمون أى إمكانية تشجع على اتخاذ خطوة أولى فى المصالحة المطروحة!! فهل المقصود من المصالحة أن يعود الإخوان إلى ما كانوا عليه بلا قيد ولا شرط؟ ولكن، من يرضخ لهم بهذا الطلب؟ أم تُرى أن فى يدهم ما يمكنهم من فرض هذا على الجميع! طيب، بأى أداة؟ وكيف؟ أم تُرَى أن وسطاء المصالحة يستطيعون أن يضغطوا عليهم للتنازل عن هذا السقف إلى ما يمكن أن يلقى قبولاً؟ فما هو الطرح الجديد؟ ومن قال إن الإخوان يرضون به؟ ومن قال إن الشعب يقبله؟ الأسئلة كثيرة، ولا يبدو حتى الآن أن هناك جدية فى طرح أى تفاصيل تشجع على الإنصات لمثل هذه الدعاوى! أما الغريب الذى يدعو إلى التفات المراقبين ومتابعى الشأن العام من آن لآخر، فهو إصرار العرَّابين على المضى فى المحاولات، أو على الأقل الكلام فى الموضوع، بما يوحى فى كل مرة كما لو أن هناك جديداً، ثم يتضح أن لا شيئ! طيب، افترض أن الرئيس تراجع عن موقفه الواضح ضد الإخوان، وافترض أن الحكومة لانت فى التصدى لهم وقررت أن تتيح لهم مجالاً مغلقاً، فمن يضمن أن الشعب سيوافق على هذا التراجع وهذا اللين؟ وما هى مؤشرات هذا التغير الشعبى المفترض فى وقت لا يزال الشعب منذ 30 يونيو على موقفه فى كل مناسبة؟ الرأى الراجح أنه، وبشروط كثيرة، لن يمكن طرح المصالحة، من ناحية المبدأ، إلا بعد زمن يصعب تحديد مداه. مع الأخذ فى الاعتبار أن تنظيم الجماعة صار خارج أى مصالحة، بعد الإدانات الرهيبة له شعبياً وقضائياً، بل، أيضاً، بالبحث الأكاديمى الذى توصل إلى حقائق لا يمكن إغفالها عن أن العنف عنصر أصيل فى كيان الجماعة بالنشأة وبالتطور وبالتاصيل الفكرى من قياداتهم، ومن الإذعان به من كوادرهم وقواعدهم، ومن التتابع على تنفيذه بثبات عبر عقود من ممارستهم للعمل العام. وهذا يُضيِّق من مجال المصالحة ويحصرها فقط فى بعض الأعضاء من القواعد والكوادر الوسطى، بعد أن يعترفوا بالأخطاء ويتنصلوا من الجماعة، وبعد أن يثبتوا عملياً أنهم صححوا من رؤيتهم وممارساتهم. أما تنظيم الجماعة نفسه، وأما قياداته المسؤولة، فلا يبدو أنه يمكن التصالح معهم، فى المدى المنظور والمحسوب.