«الصليب».. علامة يختص بها المسيحيون حول العالم، بمختلف طوائفهم وطقوسهم وبلادهم، يعرف به الآخرون دينهم، ويمثل للمسيحيين أنفسهم رمزًا للخلاص، والقوة، وربما الانتصار على الموت.. فهو بحسب إيمانهم وإعتقادهم، «الحماية والقوة المُستمدة من الله»، وسبب ذلك يعود إلى ما حدث في مثل هذا اليوم.. الجمعة، منذ نحو 2000 عام تقريبًا. عاش المسيح في المجتمع اليهودي، كان يجول في كل مدينة وقرية يكرز بملكوت الله، يصنع خيرًا.. ومعجزات، ما جذب نحوه ألوف من البشر لكي تستمع إلى تعاليمه ويتبعوه، ما حث رؤساء الكهنة اليهود على الثورة ضده، يرفضون ما يفعله، ويصرون على قتله، ولكن في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة. أراد رؤساء الكهنة اليهود، أن يقبضوا على المسيح أكثر من مرة، ولكن لم يفلحوا في ذلك، لأنه بحسب إنجيل يوحنا «ساعته لم تكن قد جاءت بعد»، فاستعانوا بأحد تلاميذه الإثنى عشر، ويدعى «يهوذا الإسخريوطي»، ودفعوا له المال مقابل تسليم المسيح لهم، وجاء مقترحهم لسببين؛ الأول «إضفاء شرعية للقبض على المسيح من خلال إثباتهم أن حتى واحد من أتباعه يرفضه»، والثاني «لكي يعرفهم مكان وجوده مع تلاميذه ليقبضوا عليه بسهولة، لأنهم كانوا يريدون القبض عليه وهو غير موجود بين الجموع حتى لا يثورون ضدهم». خميس العهد «الذي أقبله هو.. أمسكوه».. كانت القبلة هى العلامة المتفق عليها بين الكتبة الفريسيين، المتشددين لشريعة موسى النبي، ويهوذا، فمن سيقبله يهوذا على جبينه، هو المسيح، ولأن حراس اليهود لا يعلمون ملامح هذا الرجل الذي عاد إلى أورشليم رجلًأ وقد تركها طفلًا، فقد تم الاتفاق على العلامة، وفي وقت متأخر من ليل الخميس، وبعد أن أنهى المسيح العشاء الرباني مع تلاميذه، الذي ترك لهم فيه وصيته، قائلًا: "أحدكم يسلمني اليوم"، جاءوا الفريسيين اليهود، المتشددين، ليقبضوا عليه في بستان جثسيماني، الموجود بجبل الزيتون في القدس. مَرَّ المسيح بخمس محاكمات أمام ولاة مثل هيرودس حاكم أورشليم، وبيلاطس البنطي، وبعد هذه المحاكمات وقف بيلاطس، والي اليهود، أمام جموع الشعب وخَيَّرهم بين تسليم المسيح لهم ليُصلَب وبين لص أخر يدعى «باراباص»، فطلبوا أتباع المتشددين اليهود، تسليم المسيح، وأمام ذلك قرر بيلاطس تعذيبه وإعدامه، وبدأت حينها محطات الصلب. الجمعة العظيمة 14 محطة مر بها المسيح شكلت فيما بعد ما عرف ب«طريق الآلام»، بدأت بإدانة بيلاطس، تبعها تلقيه للصليب الخشبي الضخم، وحمله، ثم سقوطه مغشيًا عليه من شدة الآلم ثلاث مرات، مسحت إحدى السيدات وجهه من العرق والدماء، ومن هنا طبعت له أول صورة، ثم لقاءه بالسيدة العذراء مريم التي نزفت عينيها من الدموع، وحمل شخص يدعى سمعان القيرواني الصليب عنه، ثم خطابه للنساء وقوله لهن ب"أن لا يبكين عليه، بل يبكين على بلدهن التي ستؤول إلى خراب"، وقصد بها فلسطين، ثم تجريده من ملابسه وسقيه خلًا ومرًا، وصولًا إلى صلبه وموته وتطيب جسده بالحنط ودفنه. يعد «صلب المسيح» من الأمور الجدلية، التي كانت موضع كتابات المؤرخين ودراسات الباحثين، الذين أجمعوا على حقيقة حدوثها حتى وإن اختلفت التفاصيل. وصف المؤرخ اليهودي، يوسيفوس "الذي عاش في 37- 100 م"، في كتبه المسيح ب«الرجل الحكيم»، الذي حكم عليه بالصلب. وفي عام 93 بعد الميلاد، نشر المؤرخ جوزيفوس عشرون كتابًا عن العصور اليهودية القديمة، موضحاً تاريخ اليهود، وتحدث عن صلب المسيح. وذكر جيمس دن، أحد العلماء البريطانين، أن هذه «حقيقة تحظى برتبة عالية جدًا من اليقين الذى يكاد يكون من المستحيل الشك فيها أو نفيها»، ووفقًا لكريستوفر إم توكيت، أحد علماء الكتاب المقدس البريطانيين، «فإنه على الرغم من أن الأسباب الحقيقية لموت يسوع من الصعب تحديدها، فإن واحدة من الحقائق التي لا جدال حولها هو أنه قد صلب». وعلى النقيض فلا يؤمن بعض المسلمون بصلب المسيح، استنادًا على نص رورد في سورة النساء يقول «وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا». افتخر بصليبه وبعيدًا عن التأكيدات والتشكيك والتفاصيل الدقيقة لما حدث، يظل الإيمان المسيحي قائمًا منذ ذلك الحين على ما ذكره الكتاب المقدس، وقوة المسيحين نابعة من الصليب الذي جاء المسيح ليبذل نفسه عليه لأجل تطهيرهم من الخطية، لأنه كما ورد في رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية «حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربي يسوع المسيح، الذي به قد صلب العالم لي وأنا للعالم»، وتتجدد تلك القوة لديهم كل عام في تذكار هذا اليوم وهو يوم «جمعة الصلب» أو «الجمعة العظيمة».