نحن نعرف طبعًا أن الروايات البوليسية من ضمن الكتب الأكثر رواجًا ومبيعًا، حيث تحتوي عناصر الإثارة والتشويق والمفاجآت غير المتوقعة. ولكن الأهم على الإطلاق لكي تكون هذه الروايات ناجحة، أن تكون الدراما متقنة ومقنعة، من دون ثغرات أو أخطاء من شأنها أن تخل بترتيب الأحداث وتجعل من الصعب تصديقها. وهذا هو ما تفتقده تمامًا بيانات الداخلية، غالبًا لأننا في بلد ليس من حقنا أن نسائل فيه الأجهزة الأمنية، والتي من المؤكد أنها تعرف مصلحتنا أكثر منا، وتدافع عنا لكي نبقى نائمين مرتاحين في منازلنا. وحتى لو وقعت أخطاء، فهي بالطبع "تجاوزات" بسبب شرور الخالة "فردية"، وليس سياسة ممنهجة تقوم على أن حياة المواطن المصري رخيصة، وأن الكل يجب أن يضحى في سبيل استقرار الأمن ووحدة الوطن. وإذا كان هو قدرنا ونصيبنا كمصريين أن نقبل بيانات رسميًّا للداخلية تقول إن مواطنًا مات بسبب السكتة القلبية بعد أن سقط من على الكرسي فجأة في أثناء التحقيق معه، حتى لو كان كل جسده يحمل آثار تعذيب وعظامًا وضلوعًا مكسورة، وعلامات صعق بالكهرباء وطفي للسجائر، فإن هذا الأمر سيكون من الصعب أن ينطلي أو يكون مقبولاً للحكومة الإيطالية، والأهم لإعلامها الحر، وأحزابها وبرلمانها، والبعيدين جميعًا عن الضغوط التي نعاني منها في مصر، والتي لا تسمح أصلاً بأن يتم نشر أي معلومات سوى تلك التي تحتويها البيانات الرسمية، وإلا قد تواجه كصحفي أو كمواطن عادي تنشر ما تشاء على "فيسبوك" أو "تويتر" اتهامات قد تنتهي بك في السجن خمس سنوات، وفقًا لقانون الإرهاب الذي وافق على كل بنوده مجلس النواب الموقر من ضمن ال341 قرارًا بقانون التي تمت الموافقة عليها خلال خمسة عشر يومًا. ومنذ ظهر يوم الخميس، وبث الأنباء الأولى عن قيام الشرطة بقتل عصابة من أربعة أشقياء متهمين بانتحال صفة ضباط الشرطة، وضع الجميع أياديهم على قلوبهم أملاً ألا ينتهي الأمر بتوجيه الاتهام لهؤلاء بقتل طالب الدكتوراه الإيطالي جوليو ريجيني قبل شهرين، وذلك بعد أن ماتوا جميعًا، ولم يعد هناك أي فرصة لكي يتم التيقن من تفاصيل الجريمة من أي جهة مستقلة، ولن تبقى سوى رواية الداخلية التي تدعي أن هؤلاء هم المسئولون عن قتل ريجيني. وفي نحو الثالثة بعد الظهر، تداولت المواقع الإخبارية تصريحات ل"مصدر أمني مسئول" ينفي فيها أن تكون هناك علاقة بين قتل هذه العصابة وحادثة ريجيني. مصدر أمني: لا علاقة بين مقتل الإيطالي ريجيني وعصابة سرقة الأجانب.. والتحريات مازالت مستمرة ولكن الكارثة وقعت في الحادية عشر مساءً، وأبت الداخلية واستكبرت، وأصدرت بيانًا رسميًّا قالت فيه إن الأربعة القتلى أصحاب كل أنواع السوابق المتعددة والهاربين والمدانين بأحكام بالسجن، كما هو معتاد في النص الرسمي المحفوظ لكل بيانات الداخلية، هم من قتلوا ريجيني. وأنه بعد أن تم قتلهم في تبادل لإطلاق النيران في منطقة القاهرة الجديدة، حيث اعتادوا أن ينشطوا، تمت مداهمة منزل شقيقة المتهم الأول، وعثر لديها على حقيبة حمراء تحمل علم إيطاليا وبها جواز سفر ريجيني وبطاقة الجامعة الأمريكية في القاهرة الخاصة به، وبطاقة جامعة كامبريدج وبطاقته الائتمانية ونظارات شمسية وهاتفه المحمول وحافظة أموال نسائية مكتوب عليها Love، وقطعة حشيش وزنها 15 جراما. ثم أورد البيان تسع حوادث أخرى تورط فيها هؤلاء الأشقياء المقتولون المنتحلون صفة ضباط شرطة بسرقة أموال وموبايلات وأشياء أخرى من مواطنين أجانب ومصريين، ومن بين الضحايا إيطالي آخر وبرتغالي ونيجيري. وانتهى البيان بتقديم الشكر لفريق التحقيق الإيطالي على الدور الذي لعبه في التوصل إلى هذه النتائج. لن نتحدث عما ورد في بيان الداخلية من ثغرات، وكيف أن بداية القصيدة كانت كفرًا، حين أشار البيان إلى أن العصابة كانت تنشط في منطقة القاهرة الجديدة، بينما أفادت كل التقارير إلى أن ريجيني اختفى في أثناء توجهه من منزله في الدقي إلى موعد عشاء في وسط المدينة، وكلتا المنطقتين بعيدة جدًّا عن القاهرة الجديدة ومنطقة نشاط العصابة. ولن نسأل عن سر احتفاظ العصابة بمتعلقات ريجيني كاملة طوال هذه الفترة، رغم أنه من المؤكد أنهم كانوا يعرفون جيدًا أن هناك ملاحقة واسعة للمتورطين في قتله. الأهم هو أن البيان لم يقدم الإجابات على الأسئلة المهمة التي تطرحها حادثة ريجيني منذ وقوعها: ما سر اختفاء ريجيني تسعة أيام كاملة إذا كان الغرض ببساطة هذه السرقة، وهذه العصابة معتادة الإجرام لهذا الغرض فقط، كما هو واضح من كل الحالات التسع الأخرى التي أوردها البيان، والتي لم تتضمن أي حالات خطف أخرى رغم وجود أجانب بينهم؟ ما علاقة انتحالهم صفة ضباط الشرطة بالحادث؟ ما سبب استمرار هذه العصابة في تعذيب ريجيني منذ اختفائه وحتى العثور على جثته في حالة جيدة وليست متعفنة، مما يعني أن التعذيب استمر على مدى أيام طويلة؟ هل من المعقول أن أي عصابة إجرامية تمارس نشاطها يوم 25 يناير الماضي، وهو اليوم الذي كان يعلم القاصي والداني أنه قد تم إعلانه يوم حرب واستنفار تحسبًا للثورة الثالثة كما زعمت أجهزة الأمن، وأن تصمم العصابة على اختيار ذلك اليوم تحديدًا لاختطاف ريجيني؟ الدراما غلط يا داخلية، ولا بد من محاسبة المسئول عن إصدار ذلك البيان، الذي من المستحيل أن يقتنع به أحد، مصري أو إيطالي طبعًا.