تميزت ثورتنا، بإعلانها عن تفتح جيل من الشباب والشابات المفعمين بالوطنية والحماس والتضحية، وصور لتكاتف الشعب وتعاضده «لا سيما فى بدايتها مثل اللجان الشعبية»، والإفصاح عن كثير من الطاقات الإيجابية الكامنة فى المصريين. ولكن بجانب كل ذلك أظهرت الثورة كثيرا مما كان مستترا! تيارات حسبها كثيرون، وطنية وأخلاقية ودينية، فوجئنا «كبيرا وصغيرا، مثقفا وأميا، غنيا وفقيرا...» كيف أن جُل ما تملكه إنما هو القدرة على الخداع والكذب. كم «شيخا» شطبه الناس، من وجوه الفضائيات والمساجد والزوايا، بعد أن أدركوا قمة التناقض بين الأقوال والأفعال! كم من تفاسير وفتاوى، بدأ الناس مراجعة القول فيها. اليوم يُجبر الناس على استعادة الوعى وتشغيل عقولهم. أعتقد أن هذا من أهم إنجازات الثورة، حيث يسهم فى إخراجنا التدريجى من ظلمة «التدين السطحى» ومتلازمة الإسلام الشكلى حجاب - لحية بجانب رشاوى - نفاق - تحرش. كظواهر تلازمت فى حياتنا، ويمارسها نفس الأشخاص! مثقفونا! فوجئنا أن الثقافة أصبحت وصفا لكثير من الخاوين من مضمونها، أنصاف متعلمين وأرباع واعين! لا يملكون جزءا من وعى المواطنين البسطاء. ضللوا الناس، وراحوا يبيعون الشىء ونقيضه، ثم عادوا ليعتذروا. الأحزاب والحركات السياسية! هل فوجئنا بأن لدينا أحزابا وجماعات «جديدة - قديمة» ليست إلا دكاكين ومصاطب؟ تلعب دور المعارضة «من الداخل» فتتظاهر بالاختلاف مع السلطة، وفى النهاية تنتمى لها وتدعمها. مثقف وسياسى، من أين أتتهما الجرأة أن يضللا الشعب بدعمهما ديكتاتوريات تاريخية لم تأت يوما بما ينبئ عن تطهرها؟ بل قل من أين أتيا بكل هذا الجهل، والازدواجية وعدم المبدئية؟ يملكان تطلعا واشتياقا لا ينفد، يرقصان على كل الموائد، وأمام كل سلطان. ولا يأكلان! لأن المستبد يعى أنهما يجب أن يظلا جائعين وأسيرا أطماعهما ليحسُن توظيفهما. يثوران صوريا للفت الأنظار، والتنبيه للأدوار التى يمكن أن يلعباها «تضليل الناس وإلهائهم». لقد جاءت الثورة اليوم لتسقط عنهما الأقنعة. بالذمة كم من سياسى ومثقف يجب أن تُجذر رؤوسهم من الساحة اليوم! محللون ومنظرون! لم يوضحوا لنا كيف ننتقل من وضعنا قبل الثورة، والسير للأمام محققين أهدافها. بل راح كثيرون يحللون لما هو حرام، ممهدين «للاستبداد الحلال» (زى دور محلل الزواج الرابع كده)! قبل الثورة أنجز نظام مبارك التزاوج بين السلطة والاقتصاد مع الفساد والنظام البوليسى، وبعد الثورة لم نتحرك لتفكيك تلك العلاقة. بل أتاحت تحليلاتنا الخايبة لاستثمار تلك المنظومة «بكاملها وكما هى» من جانب سلطة جديدة. سلطة لم تكتف بما هو قائم، بل أضافت الدين كوسيلة احترازية للبطش بأى معارضة، والعصف بالحريات والحقوق، مدعومة بمنظرينا «المتعلمين والمتنورين». رغم أن كل من درس سياسة أو تاريخا أو قانونا أو اجتماعا أو حتى قرأ التاريخ، إنما يدرك حقيقة بديهية، وهى أن «الاستبداد والقمع» هما المصير الأوحد لثنائية «الدين والسلطة». رغم ذلك ارتموا فى أحضان السلطة الواعدة، يُخَدِّمون عليها بتنظيرات مخادعة. فى صورة معبرة عن ضحالة العلم، بجانب الضعف الفكرى والنفسى والأخلاقى. لكن لا ننكر أن هناك عديدا من العلماء والخبراء والمثقفين المرموقين، المستقلين عن أى سلطة، المنحازين بقوة إلى الحرية والعدل، وحقوق الناس، لكنهم ليسوا من نجوم الفضائيات. وذلك ينبهنا إلى إثم الإعلام الذى لم يتخلص من عيوبه، بل تحولت برامجه بدلا من توعية وتوجيه الرأى العام لما فيه أهداف الثورة، إلى برامج ساخنة وحوارات لا تؤدى إلا إلى مزيد من الانقسام والتضليل، دون طرح رؤية. اليوم علينا الوقوف بمبدئية لمراجعة ما سبق، وتحليل الواقع، والتخطيط لما هو قادم. أكبر خطأ أن نيأس فنركن لمن اعتقدنا أنهم زعماء الوطن، واتضح أن الزعامة هى لطموحاتهم وأن مصالحهم هى محركهم الأوحد! ما ينقصنا هو الموضوعية والمبدئية والثبات على الموقف، نتنوع ونختلف، ونتبادل الاحترام ما دام اتفاقنا هو الوطن والشعب والثورة، والوقوف فى وجه أى احتمال للاستبداد مهما كان مصدره. كشفت الثورة عن حلم المصريين المتجدد فى الحرية والعدالة والكرامة. الحلم ما زال يحتاج إلى مزيد من الجهد لبلوغه، ولكن كل يوم يظهر شباب ورجال ونساء يعلنون ثباتهم واتساقهم مع ثورتهم. نعيش فى انتفاضة متجددة متنوعة فى أساليبها ووجوهها، متوحدة فى الهدف «الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية». أزعم أن المرحلة الانتقالية لهى من أهم الفترات فى تاريخ مصر الحديث. لقد أسهمت الثورة وما تلاها من أحداث وصراعات فى كشف كثير مما كان خافيا، واتضح للناس عديد من الحقائق والوجوه الخافية وراء أقنعة من التظاهر والادعاء والنفاق. الصبر.. فالفرز ما زال مستمرا، وسنبنى الوطن على نظافة إن شاء الله.