واجه الإنسان الأول الحيوانات البرية المفترسة فى العصور القديمة، فحاول اللجوء إلى الماء للهرب منها، لكنه واجه الغرق فى البحر والنهر، وعندما نجح فى تعلم السباحة، وبناء الأطواف العائمة باستخدام جذوع الأشجار، أدرك أنه ألقى بنفسه فى مأزق مواجهة الأمواج والأسماك المفترسة والتماسيح والكائنات المائية المتوحشة! فى تلك اللحظة القديمة الغابرة لم يعد أمامه إلا التفكير فى حلم الطيران للهرب من كل تلك المخاطر! هذه مقدمة تاريخية تخيلية لا بد منها، لكى نفهم رقص الباليه، كما أفسره، وارتباطه بالانتصار على الجاذبية الأرضية. فى قصور الرئاسة الفخيمة وخارجها، وداخل مجالس النواب والشورى العريقة وخارجها، لدينا أشخاص مهوسون بالجنس، كهاجس دائم قد لا يهدأ بانتهاء حياتهم ذاتها، بل ربما يتجدد عندما تقوم أرواحهم فى العالم الآخر بمطاردات أبدية للحوريات فى أروقة الجنة! أولئك البشر لا يرون شيئا فى فن الباليه أكثر من ساق عارية لراقصة نحيلة، لا يمكن أن تثير شهوة الذكور، إلا إذا اعتبرنا أن رؤية البشر لسيقان العصافير بإمكانها أن تثير غريزتهم الجنسية! أولئك الأشخاص يستحيل على خيالهم أن يرتقى إلى درجة يدركون معها أن فن الباليه هو حوار درامى راقص يعبر عن محاولة الإنسان الدائمة للإفلات من أسر الجاذبية الأرضية للهروب من «ورطة الحياة» كما يقول الفلاسفة. ما قيمة ذلك التعبير الرمزى للإنسان؟ وما أهميته؟ تعالوا كعادتنا نعود إلى البدايات. من منا لم يحاول فى طفولته أن يحرك ذراعيه مرفرفا ليطير بهما كأجنحة العصافير؟ الجواب لا أحد! كلنا لعبنا فى طفولتنا لعبة الرفرفة بالذراعين كالأجنحة كما لعبها الإنسان الأول، بلا شك، خلال حلمه بالطيران! الأغرب أن تلك اللعبة استقرت فى جينات الإنسان المعاصر ودفعت بأطفاله إلى تقليد الطائرات، وليس الطيور فقط، عندما يفردون أذرعهم كأجنحتها المعدنية الثابتة، ويصدرون من أفواههم أصواتا تعبر عن طيرانهم باستخدام محركات قوية هادرة! هل نسيتم أسطورة الفتى اليونانى «إيكاروس» الذى سقط فى البحر بعد أن أذابت الشمس الشمع الذى لصق به أجنحة من الريش على ظهره؟ هل نسيتم المآسى التى نجمت سقوط عباس بن فرناس على رأسه زرع بصل، وتقليد أطفال العالم للسوبرمان وتقليد أطفالنا لفرافيرو العجيب؟ ألا يرجح كل ذلك التقليد، وكل تلك اللعبات والمآسى أن محاولة الطيران تعد رغبة أصيلة تولد مع بنى الإنسان؟! لماذا الطيران بالذات؟ لأنه كان رغبة شبه مستحيلة للهرب من المآزق لا يمكن تحقيقها بالجهد والتدريب كما حدث لأجدادنا مع السباحة. تكتسب تلك الرغبة الجامحة، التى تتضح فى رفرفة الأطفال المجازية بأذرعهم، قيمتها ومعناها من أزمتين كبيرتين. الأولى محاولة هروبنا قديما من الحيوانات البرية أو البحرية التى تسعى لافتراسنا، ومحاولة هروبنا حديثا من المآزق الاجتماعية والتابوهات التى نصادفها وتصعب مواجهتها على أرض الواقع! بالطبع لو افترضنا تحقق حلم الإنسان القديم بالطيران فى زمانه، فلم يكن هذا سيرحمه من خطر مواجهة الجوارح الكبيرة المنقرضة السابحة فى الجو، ولكن مواجهته لها بمفردها فى السماء كانت ستصبح أقل خطرا عليه من مواجهتها مجتمعة مع غيرها من المفترسات البرية على الأرض. «نفسى آخدك وأطير ونبعد عن كل حاجة!» جملة نمطية مكررة يوجهها الرجال إلى حبيباتهم منذ بدء الخليقة. يقولونها بالإيحاءات والإيماءات حتى من قبل أن توجد المفردات واللغة! الطيران إذن ليس أداة حربية أو وسيلة مواصلات سريعة، إنه جزء من حلم الإنسان فى الابتعاد عن واقعه المؤلم، والهروب من ورطته، والارتفاع والسمو عن دناءة العالم الأرضى وحقارته بالارتقاء فى السماء بكل ما تحمله من رمزية جعلتها مقرا لسكنى الآلهة والملائكة! هل سيحاول الآن من يناقشون إلغاء فن الباليه أن يفهموا سر محاولات الباليرينا الأبدية للقفز والتسامى، وهى ترفع ذراعيها متوجهة بأطراف أصابع يديها الممدودتين إلى الأعلى، بينما تشرئب على أطراف أصابع قدميها لتعبر عن رغبة مستحيلة فى لمس السماء؟ لا أظنهم سيفهمون. لأنهم حتى وإن غضوا أفكارهم عن عرى ساقيها فمن المحال عليهم أن يتغاضوا عن التلامس الجسدى بينها وبين زميلها الراقص «الباليرينو» أو «الباليروه» الذى يشاركها المأساة ويحملها ويدور بها ويرفعها عاليا لمساعدتها على إنجاح محاولتها للارتقاء! هاجس الجنس الدائم ليس هو العامل الوحيد المسيطر على تلك العقول. هناك هواجس أخرى لا تقل أهمية عنه مثل تكفيرهم للآخرين الذين لا يتفقون مع ضحالة فهمهم للحياة. كنت قد عكفت على كتابة رواية بعد الثورة لم أتمكن من إتمامها بسبب الانشغال بكتابات أخرى، كالمقال الذى تقرؤونه الآن، تناقش مشكلات يومية لا تحتمل التأجيل، أو ربما لسقوطى، بعض الأحيان، فى بئر الإحباط بسبب بلادة مشاعر وانعدام كفاءة القائمين على أمور الوطن، واستغراقهم الدائم فى مستنقع مناقشة البديهيات، وتوافه الأمور. تأخرت للأسف فى إتمام تلك الرواية، لكننى لن أفسدها عليكم عندما أخبركم أنها تبدأ باصطدام بطلها الفنان بمشكلة إغلاق أجهزة الحكم الدينى لفرقة مسرح الطفل التى ينتمى إليها، باعتبارها تقوم بأعمال من شأنها نشر الرذيلة والدعوة إلى الكفر والفسوق! لم أكن مبالغا إذن عندما استشعرت أن كراهيتهم للحياة وفهمهم المغلوط لها وصناعتهم للتعاسة ستدفعهم إلى الهجوم على المعاهد الفنية وفرق المسرح والرقص على اختلافها.. وها هم يبدؤون بالفعل فى ربط صخرة فى قدم «بنت أم أنور» التى جعلها شاعرنا الفيلسوف الراحل العظيم صلاح جاهين ترقص باليه بحيرة البجع لترتقى إلى السماء انتصارا على واقعها الذكورى الذى زادته البلة طينا.