ذهبنا أمس لمشاهدة العرض الأخير من باليه «كسَّارة البندق». منذ سنوات وزوجتى تلح أن نذهب لمشاهدة هذا العرض الذى تقيمه فرقة باليه القاهرة فى دار الأوبرا فى أواخر ديسمبر من كل عام. هذه المرة كان عندها حجة قاضية. سألتنى: هل تضمن أن يقدموا هذا العرض فى العام القادم؟ ماذا ستفعل الأغلبية الإسلامية البرلمانية فى فرقة الباليه المصرية؟ هل ستواصل تمويلها من الميزانية العامة أم ستشترط على راقصيها وراقصاتها أن يرتدوا ملابس مطابقة للمواصفات الوهابية، ملابس فضفاضة لا تكشف ملامح الجسد، وتحتها بنطلونات غامقة وغير ملتصقة؟ وإن فعلت الفرقة ذلك، فهل ستشترط الأغلبية الجديدة أن لا يلمس الراقص راقصة إلا إن كانت زوجته؟ ومن ثم يكون أمام الفرقة إما الرقص دون تلامس وإما تدريب الراقصين والراقصات فى أزواج بينهم رباط شرعى. وماذا لو انفصل الراقص الأول وزوجته؟ أم، بدلا من كل هذا الصداع، ستقوم الأغلبية الجديدة بقطع التمويل العامّ عن فرقة الباليه وتركها تُحتضر؟ ذهبت وزوجتى إذن لمشاهدة كسارة البندق علّه يكون آخر عام تعرض فيه فرقة القاهرة هذا الباليه، بدلا من أن تلومنى زوجتى بقية العمر على حرمانها من مشاهدة الإبداع المتميز لهذه الفرقة. وجلسنا نشاهد العرض. ولمن لا يعرف هذا الباليه، تدور القصة باختصار حول فتاة تتلقى دمية على هيئة كسارة البندق هدية من ساحر فى حفلة عيد الميلاد، تنكسر الدمية ويصلحها الساحر، ثم تنام الفتاة وترى فى منامها الدمية وقد تحولت إلى فارس أحلامها، وقوى الشر تطاردهما، والساحر يساعدها أحيانا على مواجهة هذه القوى، ثم تستيقظ وتفهم أحلامها. الفرقة تقدم الباليه كما كتبه أصحابه منذ أكثر من مئة عام، بيوت النبلاء فى روسيا القيصرية، حفلات أعياد الميلاد التى كانوا يقيمونها، بملابسها وطقوسها، والثلج الذى يتساقط على شجر السرو. ووجدت نفسى أسأل نفسى: لم تقدم فرقة باليه القاهرة مثل ذلك العرض المنبتّ الصلة بالواقع المصرى والعربى؟ وإن كانت الفرقة بعد خمسة وأربعين عاما من إنشائها ما زالت لا تجد لديها ما تقدمه سنويا سوى عرض منقول بعدته وعتاده من ثقافة أخرى، أفلا يعنى ذلك أنها قد فشلت فشلا ذريعا فى تحويل هذا الفن إلى تعبير عن واقع المجتمع الذى تعيش فيه وفى لمس أوتار وجدان الفرد الذى يعيش فى هذا المجتمع؟ سؤال مزعج، لكنه سؤال حقيقى يطلب إجابة أمينة مع النفس. لست ضد عالمية الفنون، إطلاقا. وأرحب بتقديم فرق باليه أجنبية زائرة عروضا تعبر عن وجدان صانعيها ومجتمعاتهم، بل وأفهم تقديم الفرق المصرية والعربية روائع الفن الأجنبى. لكن، والمشكلة فى «لكن» هذه، ألا يجب أن تقوم هذه الفرق بالتعبير عن واقعها هى من خلال هذا الفن؟ ألم تفعل السينما ذلك فى كل المجتمعات من اليابان إلى مصر؟ ألم تستخدم فنون التعبير السينمائى كى تعبِّر عن وجدان صانع الفيلم ومجتمعه؟ أحيانا تقتبس وتنقل، ولكنها حين تفعل ذلك تقدم ما تنقله أو تقتبسه فى ثوب قريب إلى متذوق الفن ووجدانه. هل تتصور أن يصنع أحد فيلما مصريا أو يابانيا عن «هاملت» بملابس وعادات وشخصيات الدنمارك فى القرن السابع عشر؟ ومن سيشاهد هذا الفيلم؟ ومن سيدفع ثمن فشله الجماهيرى الذريع؟ مثلما نرفض ضيق الأفق الفكرى والجمود الثقافى والأخلاقى فمن واجبنا رفض منطق استلاب الهوية والوقوع فى أسر التقليد الدائم. الطريق الثالث هو الأصعب، على الأقل لأن كلا الطرفين سيهاجمك، لكنه هو الطريق الصحيح للتعبير الفنى والثقافى المنفتح والمتميز فى آن واحد، الذى يأخذ بلا خجل من كل المنابع، لكنه يعبر عن وجدان صانعه هو، ويلمس لدى متلقيه وترا يجعله يشعر أن هذا الفن فنه هو، لا فن أجنبى.