كنا نتبادل يومًا مخاوفنا من أن يزيفوا التاريخ بعد سنوات، حين يعيدون أمام أطفالنا سرد أحداث أخرى غير التى عشناها، لكنهم اختصروا الأيام والجهد، ووصلت بهم الصفاقة والأمان فى مرور الأشياء دون تعليق أو محاسبة أن يدلسوا فى أحداث تجرى أمام أعيننا وعلى الهواء مباشرة. ما أن بدأت الجلسة الأولى لمجلس النواب، وانطلقت معها صفحات السخرية اللاذعة الأشد أثرًا من الملايين المنفقة على برامج التوك شو "الوطنية" لتفسد لهم ما كان مخططًا أن يعتبروه "مشهدًا وطنيا سعيدا"، فتململوا فى مقاعدهم، واستعادوا نظريتهم المفضلة "كلنا فاسدون"، وما يحدث مسئولية الجميع، وهؤلاء النواب ليسوا إلا جزءًا من الشعب الذى اختارهم، ثم اجتهد البعض وقال إن هذه نتيجة العزوف عن التصويت! يبدو الخوض فى هكذا نقاش مضيعة للوقت والجهد، فهؤلاء لا يخاطبوننا أصلا، هم يوجهون بتناغم شديد وفى توقيت واحد كلماتهم إلى المذبذبين الحائرين الذين يرون معالم الفشل والبطش والفساد ظاهرة للعيان لكنهم يخشون الانهيار والمصير الذى لا تمر مناسبة إلا ويهددوننا بالوصول إليه. لا يحتاج الأمر إلى استعادة قصص الآلاف من المسجونين، ولا العشرات من المصفين جسديا، أو المختفين قسريا أو المحاصرين فى جامعاتهم بتدخلات الأمن، أو المبعدين عن وظائفهم، أو الممنوعين من السفر دون سبب للبرهنة على أن أجواء كهذه لا علاقة لها بأى مناخ سياسى. لكن الواضح أن الرهان دائمًا على التدليس ونسيان حتى ما كان أطراف من داخل معسكر الدولة يخرجون ليعلنونه من آن لآخر عن فساد ترتيبات الانتخابات وقوانينها ومشهدها الأخير. تعليمات أمنية وهندسة للمشهد على مقاسات المحبين المطيعين لم يكشفها إعلام إخوانى ولا عميل أو ناشط، بل خرجت وجوه كمصطفى بكرى وحازم عبد العظيم وتوفيق عكاشة نفسه وغيرهم ليعلنوا استياءهم من سيطرة وتدخلات الأجهزة، وأن الأمور وصلت إلى درجة لا تحتمل الصمت. أنت فى منزلك واخترت أن تتجاهل إعلامًا مضللًا، لكنك مسئول، حسب هؤلاء، عن ارتفاع نسب مشاهدة برنامج آخر يعتمد على الفبركة أو الإثارة الرخيصة، كما أنك مسئول أيضًا عن غياب منافسى هذا الإعلام من وجوه تحترم مهنتها غيبتها أيادى الأمن وجيوب رجال الأعمال. تحملك هذه النظرية المسئولية عن وصول توفيق عكاشة إلى المنافسة على رئاسة المجلس، وحصوله على خمسة وعشرين صوتًا، رغم أنك لم تكن فى دائرته الانتخابية، ولم تصوت أصلا ولم تشغلك كل هذه المهزلة، كما أنك شريك فى المهازل الأكبر التى كنا نتمنى أن يستمر نقلها حية إلينا، لكن الخوف على "هيبة المجلس" سترها عن عيون المتربصين بالتجربة. وصل الأمر إلى حد اعتبار هذه الصورة الكارثية التى رأيناها نتيجة تراجع مستوى التعليم! تدليس أنيق لكنه مفضوح، واستخفاف بعقول البشر كأن المواطن أيضًا هو المسئول عن انهيار التعليم إن كان هذا يصلح سببًا، واستهانة بالمواطنين كأنهم لا يرون ولا يسمعون ولا يفهمون حتى تظهر هذه التفسيرات والتعليقات لتأخذ بيدهم وتهديهم، ولا يفوتهم فى كل مرة أن يطالبوننا بلهجة من يحمل عصارة الحكمة وخلاصة خبرة الحياة، ألا نركز على السلبيات ونركز على المشهد كله. كل فضيحة وكارثة مهما كان حجمها وأثرها هى فى عيونهم ومقالاتهم ومقدمات برامجهم ليست إلا تفصيلة سيئة صغيرة لا ينبغى أن نركز عليها، كما أنها تحدث فى كل مكان فى العالم ومعبرة عن هذا الشعب فلنتفت للأهم.. ولا يخبرنا أحد ما الأهم من هذا كله؟!