من الذي ارتكب جريمة إغلاقها؟ وهل نحن قادرون على إعادة إنتاجها من جديد؟ هل من قانون لمنع احتكار الحديث باسم الدين لصالح الأزهر؟ هل تعرفون متى أنشئت تلك المدرسة ومن خرّجت، لقد أنشئت هذه المدرسة في العام 1907 وقد كان المكلف بإنشائها هو الإمام محمد عبده بعد أن فقد الحماسة لإصلاح الأزهر ورأى حال المحاكم الشرعية في القرى والنجوع وما يحدث فيها بسبب جهل قضاتها وجوْرهم وظلمهم. وفي الوقت الذي كان فيه محمد عبده وزيرًا للحقانية (العدل) رفع تقريره للخديو. ونقتطع هنا بعض كلمات من كلام الدكتور عبد المنعم الجميعي عن هذه المدرسة في كتابه "مدرسة القضاء الشرعي.. دراسة تاريخية لمؤسسة تعليمية" 1907-1930. «ونتيجة لذلك شكلت وزارة الحقانية في نيسان أبريل 1905 لجنة برئاسة الشيخ محمد عبده مفتي مصر، وعضوية حسين رشدي القاضي في محكمة مصر المختلطة، وأمين سامي ناظر المدرسة الناصرية، والشيخ محمد زيد مدرس الشريعة الإسلامية في مدرسة الحقوق، وكلفت هذه اللجنة بتحضير لائحة للمدرسة المقترحة، ووضع نظام للدراسة فيها. وتوالت اجتماعات اللجنة، وساعدها كرومر في مهمتها بما كان يجمعه لها من نظم وبرامج المدارس المشابهة لها في الدول الأخرى، حتى يمكنها اختيار النظم المثلى لها، ويؤكد ذلك اتصاله بالبارون كالي حاكم البوسنة لتخريج قضاة الشرع المسلمين على غرار كلية القضاء التي أنشأتها حكومة النمسا في ساراييفو، والتي كانت قد أثبتت كفاءتها ونجاحها، وبالفعل تم وضع هذه المعلومات تحت تصرف الشيخ محمد عبده، واللجنة المكلفة. ويؤكد الجميعي أن الأمور سارت على طريق التنفيذ الفعلي للمدرسة، إلا أن وفاة الشيخ محمد عبده في العام 1905 أدت إلى تجمد الوضع بعض الشيء وتأخيره، لكن الشيخ رشيد رضا تلميذ الإمام، أحيا الفكرة من جديد، وأعادها إلى الأذهان، وروّج لها على صفحات مجلة (المنار)، وتبناها سعد زغلول وزير المعارف آنذاك، فقد انتهز فرصة شكوى مجلس شورى القوانين من سوء نظام المحاكم الشرعية، وتشجيع اللورد كرومر للمشروع، فأعرب عن تحمسه للمشروع، ورصد له مبلغ 8574 جنيهًا من موازنة المعارف عن العام 1907. لكن المشروع لاقى معارضة شديدة من رجالات الأزهر الشريف لاعتقادهم أن هذه المدرسة تشكل خطرًا على الأزهر نفسه، بحجة أنها ستسلب منه شيئًا مهمًّا، وهو الإعداد لمناصب القضاء الشرعي والمحاماة، بعد أن سلبه الأزهر، دار العلوم من قبل، وظائف مدرس اللغة العربية، ولم يعد أمام الأزهريين سوى وظائف الإمامة والخطابة والمساجد. ووضع الأزهريون العقبات أمام هذا المشروع، فبدأت الحركات المناهضة له تتزايد في الإسكندرية ومنها امتدت إلى القاهرة، والجوامع المشهورة، في مختلف أنحاء البلاد، ومن أجل ذلك رأى رجال الأزهر أنه كي يؤول إليهم مصير التعليم في مصر مرة أخرى يجب ألا تقتصر دروس الأزهر على العلوم الدينية، بل تنضم إليها العلوم العصرية، حتى يصبح جامعة شاملة. وهكذا تأثر الأزهر بدعوات التجديد والتطوير، خوفًا من أن يفقد رصيده على الصعيد المصري، ومكانته الكبرى عربيا وإسلاميا. وصدر الأمر العالي المؤرَّخ في الثاني والعشرين من المحرم عام 1325ه الموافق 25 شباط فبراير 1907م، موقعًا عليه من الخديو عباس الثاني، ومصطفى فهمي رئيس النظار الوزراء وسعد زغلول ناظر المعارف، بإنشاء مدرسة القضاء الشرعي، متضمنًا أربعًا وعشرين مادة يتضح منها أن الغرض من هذه المدرسة هو تخريج القضاة والمفتين وأعضاء المحاكم، ووكلاء الدعاوى المحامين وكَتَبَة المحاكم الشرعية. وكانت تبعية المدرسة من الناحية الاسمية للأزهر الشريف، أما من الناحية الفعلية، فقد كانت تابعة لنظارة المعارف، وعضوية مفتي الديار المصرية، ومن عضوين آخرين. وانقسم نظام الدراسة إلى قسمين، الأول: مدة الدراسة به خمس سنوات، واقتصرت مهمته على تخريج كتبة لشغل الوظائف الكتابية بالمحاكم الشرعية، والآخر: مدة الدراسة به أربع سنوات، والهدف منه تخريج القضاة والمفتين وأعضاء ووكلاء دعاوى هذه المحاكم».أ.ه هل تعرفون مَن خرّجت تلك المدرسة؟ إليك بعض الأسماء وعليك أن تضع ميزان هؤلاء الأفذاذ من مدرسة عمرها 23 سنة بالأزهر وهو عمره ألف عام: أحمد أمين، وأمين الخولي، والشيخ الكبير محمد أبو زهرة، والشيخ محمد المهدي، ومحمد الخضري. طلاب تلك المدرسة كانوا يخرجون من المدرسة يترجمون الكتب ولم تكن ترجمة حرة، ولكنهم كانوا دارسي شريعة، فكانت ترجمة الكتب لها قيمتها الفلسفية كما فعل أحمد أمين عندما ترجم كتاب مبادئ الفلسفة لرابوبورب وأشرف أحمد أمين على لجنة الترجمة والتأليف والنشر لمدة تقرب من ثلاثين عامًا. فليقل لي أحدهم ماذا ترجم الأزهر من وقتها، بل ليقل لي ما أعمال الترجمة الآن التي تخص العلوم الإنسانية والفلسفية وهي موجودة بالتأكيد، ولكن للأسف معظمها لدور نشر غير مصرية، أما هؤلاء العمالقة خريجو مدرسة القضاء الشرعي وبخاصة أحمد أمين فكان لهم رؤية فيما يترجمونه وكانت لهم رؤية في تقديمهم للكتب المترجمة أو تعقيباتهم، لأن الترجمات الأخرى مجرد ترجمة لدارسي لغة يقومون بالترجمة الحرفية، وهذا هو الفرق بين مفكر يقوم بالترجمة ويشرف عليها، ودارس جيد للغة يقوم بالترجمة. هل سنتحدث عن الشيخ أبو زهرة؟ هل سنتحدث عن أمين الخولي؟ هل سنتحدث عن الشيخ محمد المهدي أم عن الشيخ محمد الخضري؟ هل سنتحدث عن أمين سامي ناظر المدرسة؟ كل شخص من هؤلاء لا تكفيه المقالات، وربما في مقالات أخرى سنتحدث عن بعضهم حتى نعلم حجم الجرم الذي ارتكبه الأزهر بمحاربته لتلك المدرسة. فقد استغل الأزهر وفاة سعد زغلول، النصير الأول لتلك المدرسة وبدؤوا في تقديم الشكاوى للملك فؤاد، ولحكومة زيور باشا وقتها، إلى أن استسلم الملك فؤاد لرغباتهم وأغلق المدرسة في العام 1930.