بدءًا من عنوانها اللافت للانتباه "إصابة ملاعب" وعنوانها الفرعي "رواية من شوطين" ووصولًا إلى آخر كلماتها "صافرة النهاية"، يقدم الكاتب أحمد الصاوي عملًا روائيًا جديدًا وفريدًا من نوعه بالنسبة للقراء باللغة العربية. إنها رواية أو سبيكة تنصهر فيها السياسة مع أجواء كرة القدم بتفاصيل لا تخلو من الدهشة والصدمة معًا. وإذا كانت الثقافة العالمية تزخر بروايات وقصص مستوحاة من كرة القدم، فإن هذه الرواية -فيما نعلم- هي الأولى من نوعها المكتوبة باللغة العربية مباشرة عن كرة القدم. وقد سبق أن أبدع القاص الجزائري الفرنكوفوني رشيد بوجدرة، روايته "ركلة جزاء" التي صدرت بالفرنسية، قبل أن يترجمها مرزاق بقطاش إلى العربية عن المؤسسة الوطنية للكتاب في الجزائر (1985) ثم صدرت طبعتها الثانية عن منشورات المؤسسة الوطنية للاتصال والنشر والإشهار (2002). تدور تلك الرواية، التي تقع في 12 فصلًا، حول مباراة نهائي كأس فرنسا، التي حصلت نهار الأحد في 26 مايو 1957، وتبارى فيها فريقا تولوز وأنجي، وشارك فيها لاعبان جزائريان. تدور أحداث رواية "إصابة ملاعب"، الصادرة عن دار الياسمين، في إطار تنافس على الشعبية بين المدرب الشهير للمنتخب المصري وأهم اللاعبين المصريين المحترفين في الخارج. هنا تتداعى إلى الذاكرة بشكل تلقائي أسماء مدرب مثل حسن شحاتة، ولاعبين مثل أحمد حسام "ميدو"، ومحمد زيدان، ومحمد صلاح. خليط من هؤلاء وغيرهم، تكاد تلمح أطيافه عبر صفحات كتاب معني بالسياسة التي يغلفها بذكاء وأناقة بمفاهيم اللعبة الشعبية ومصطلحاتها وصراعاتها التي تتقارب في كثير من الأحيان مع دهاليز السياسة وصراعاتها. في كلمة الناشر على ظهر الغلاف نقرأ: "هذه رواية جديدة بكل معنى الكلمة. كرة القدم والملاعب مادتها، وتغوص في هذا العالم المليء بالتدخلات السياسية والمصالح الاقتصادية، وهي لا تبتعد عما يحدث حولها من ثورات وتحولات وإحباطات، بل تعكسه في مشاهد خيالية ساخرة.. جديدة ومثيرة، رغم أنها الرواية الأولى للصحفي والكاتب اللامع أحمد الصاوي". يستهل الصاوي روايته بافتتاحية تقول كل شيء، عن واقع مرير، وأيام عصيبة.. كلام نستشف منه أنه على لسان الراوي أو الروائي، لا فرق، وكأنه مانيفستو اليأس؛ إذ يقول: "سنوات من الحرب، وسنوات من الفساد، وسنوات من محاولات الثورة التي غرقت في الفوضى أو خطفها الماضي بدلًا من أن يمضي بها المستقبل. "تداولها الإرهاب والاستبداد ككرةٍ حائرة في منتصف الملعب، تنتظر من يسددها في الشباك، وكلما سجل أحدهما هدفًا، عادل الثاني الكفة.. هكذا بينما أنت مطرود في المدرجات، لا تلعب ولا تشجع أيًا ممن يلعبون" ( ص 9). والنتيجة؟ "استهلكت سنوات التيه طاقتك حتى خارت قواك. تعلقت بكرة القدم، كأنك تتشبث بها. تخرج فيها حماسك وغضبك وأملك. تنتشي بها وتغرق في فرحتها. تكتئب بسببها ويحيط بك إحباطها. "عندما غرقت مع الغارقين في الفوضى، دخلت لعبة السياسة وهجرت ملاعب الكرة. جرفتك سيولة الرهان، حتى عدت إلى المربع رقم صفر. وعندما هزمت الشكوك كل قناعاتك، لم يبق لك إلا كرة القدم. "تشبثت بكرة القدم، وهربت إليها من السياسة، لكن السياسة لم تتركك، وأصرت بترتيبٍ مسبق أو بالمصادفة على إلقائك في أتونها من جديد" (ص 9). منذ "صافرة البداية"، وهو عنوان الفصل الأول من الرواية، نستعيد مع أحمد الصاوي ذكريات مصرية صميمة، تتأرجح ما بين لحظة التأهل إلى مونديال إيطاليا 1990 عبر محطة الجزائر في عام 1989، وبين لحظة الأمل، ثم التعثر في التأهل إلى مونديال جنوب إفريقيا 2010، عبر لقاءين، أحدهما حاسم مع الجزائر مرة أخرى في عام 2009. تبدأ الرواية بالحديث عن الفوز الكاسح وتصدر مجموعة التأهل إلى كأس العالم لكرة القدم، قبل أن يغتال سارق الفرح فرحتك، بعد الإعلان عن تقليص عدد المنتخبات المتأهلة للنهائيات، الأمر الذي يفرض على المنتخب المصري مواجهة الكاميرون لحسم من سيتأهل منهما مباشرة إلى البطولة، في حين سيضطر الخاسر إلى مواجهة أفضل الخاسرين في آسيا، وإن اجتاز تلك العقبة فسيتعين عليه مواجهة أفضل الخاسرين في أوروبا. هنا يبحث المصري عن قشة نجاة. "تتذكر ناصر: "ليت الكابتن حندوسة مدرب المنتخب الوطني يعيده لصفوف الفريق" (ص 14) غير أن المدرب واللاعب خلافات، أو قل ملاحظات، يسميها المدرب: "أخلاقية"، ويسميها اللاعب: "ثقافية". صراع بين ناصر، اللاعب المحترف في الدوري الألماني، والكابتن حندوسة، الذي يرفض عودة اللاعب للمنتخب بعد قطيعة كبيرة بينهما. حتى بعد قرارات الفيفا الصعبة بشأن التأهل لنهائيات كأس العالم، يصر حندوسة على موقفه، ويقول: "لن يعود.. وسنصل لكأس العالم بدونه" (ص 15). بل إن حندوسة ينفعل على مذيع التليفزيون في لقاء آخر ويرد عليه بغضب: "لو عملت المستحيل.. مش راجع" ( ص 25). مبررات المدرب تدور حول اتهام اللاعب بأنه "يثير روح التمرد في المجموعة"، فضلاً عن شهرته الطاغية وثرائه الشديد، والأخطر من ذلك "إنه نموذج غير متدين كما ينبغي وكما يتناسب مع (منتخب الساجدين)" (ص 25). غير أننا نكتشف أن المدرب لم يتمرد يومًا على مدربه، لكنه كان يرفض فقط تدخل المدرب في شؤونه الخاصة، ومحاوله أن يرسم له طريقه في الحياة خارج الملعب. لكلا الطرفين مؤيدون وأنصار، بل إن الكابتن يهمس لنفسه قائلًا: "عنده إعلام وعندي إعلام" (ص 29). آلة الإعلام الجهنمية تدخل على خط الصراع، لتضيف إلى الأبعاد السياسية والرياضية وسيلة أو منصة لتبادل الهجوم. طبيعي أن يكون أنصار اللاعب أكبر وأكثر من أجواء الرواية نقرأ: "جمهور ناصر اللاعب رقم واحد، وليس الثاني عشر.. حتى لو كان يشاهده ويشجعه عبر شاشة فيما هو على بعد أميال بعيدة، لكنه يشعر بهم.. هكذا يشرح "حمامة" لرفاقه. فيما يشاهدون "ناصر" يصعد على منصة التتويج لتسلم الكأس الأوروبي مع فريقه البطل. ويرسل القبلات في الهواء. ويتحدث بالعربية شاكرًا محبيه في أرجاء العالم. وفي مصر خصوصًا. وحينها يفرح "حمامة" ويتقدم رفاقه في زفة فرح تلتقي مع غيرها رافعة صور "ناصر"، وأعلام فريقه، يحتفلون بفوزه بالبطولة الأوروبية. ولا ينسون في سياق فرحتهم توجيه السباب لنجم الفريق الإسباني المنافس على الطريقة المصرية" ( ص 21- 22). تستوقفك في الرواية عبارة دالة تأتي على لسان وزير الداخلية، وفق حساباته؛ إذ يقول: "ناصر الآن بؤرة توتر في مجتمع "ملصم" ( ص 152). وناصر هذا له فلسفته ومنطقه الذي يستحق التأمل. "تعرف أن ناصر حين غادر الملاعب المصرية إلى أوروبا، كان ينجو بنفسه من استقطاب اقتحم كل شيء حتى ملاعب الكرة، وبات يضغط عليه ويطلب منه أن يحسم أمره بين طرفين كل منهما ينتظر منه انحيازًا كاملًا، وهو يتجنب كل ذلك بقوله: "أنا مجرد لاعب كرة" ( ص 15). هذا الاستقطاب السياسي هو آفة مجتمع بأكمله. حالة التفتيش في الضمائر، وماكينات التشويه وحروب الشائعات، تنهش في الجميع. وإذا كانت كرة القدم هي طوق نجاة، فإن الاستقطاب امتد إليها، كما سنرى ونقرأ في الرواية . أما الجمهور، فهو حكاية أخرى. "حمامة" أحد هؤلاء التائهين. عاشق كرة قدم تقليدي، وجد في كرة القدم ضالته، أو ربما مهربه من واقع مؤسف وأحوال لا تسر أحدًا. تتوالى الانتقادات المبطنة لهذا "الجمهور" الذي نتابع سبابه وشتائمه في مواقف الهزيمة أو مع من يختلف مع مواقفهم، ونقرأ كيف أن "ذاكرة الجماهير ضعيفة عند الإخفاق" (ص 37). يثير الصاوي في كتابه أسئلة مختلفة، بروح الصحفي تارة وبقلم الروائي تارة أخرى، وهو يتطرق إلى موضوعات شائكة ومسكوت عنها في عالم كرة القدم والسياسة، وهو هنا يضع سؤالًا يشبه قنبلة موقوتة على لسان الشاب اليساري يحيى، شقيق اللاعب ناصر؛ إذ يحادث نفسه قائلًا: "هل لمصر فعلًا علاقة بالأمر أم أنه مجرد تنافس بين اثنين على الشعبية والنجومية واحتكار الإنجاز ومن ثم عوائده المالية الكبيرة؟" ( ص 53). وعلى لسان ناصر نفسه، تطل أسئلة من عينة "لماذا لا نلعب مع إسرائيل؟" (ص 127) أو "لماذا يندر اللاعبون المسيحيون في كرة القدم المصرية؟ وفي الفريق الوطني تحديدًا؟ هل في المسألة أي بُعدٍ طائفي؟" ( ص 27). في بعض الأحيان، نجد لغة خطابية مباشرة عبر سطور الرواية تتحدث عن الإحباط العام وغياب الإنجاز، وأزمة البحث عن حقوق العيش والحرية والكرامة والعدالة، وهي في الأساس ناجمة عن الصراع بين الصحفي والكاتب داخل أحمد الصاوي، والروائي الذي يحاول أن يبتكر قالبًا إبداعيًا لأفكار تجول في خاطره. لا تخلو الرواية من مفارقات طريفة، فالتسديدة التي جاء منها هدف ناصر في مباراة ودية مع المنتخب الأوزبكي لم تغير النتيجة فحسب، وتفجر كل مظاهر الفرحة في المقاهي وأمام الشاشات العملاقة في الميادين وحول شاشات التليفزيون في المنازل، "لكنها تمتد لتغير مصير التحقيق الذي فتحته الشرطة مع شقيقه يحيى ومجموعة من زملائه وطلابه في الجامعة، بعد إلقاء القبض عليهم بتهمة خرق قانون التظاهر" ( ص 59). صورة طبق الأصل من الواقع أما نهاية الرواية، فهي مفاجأة يجب أن تكون مستعدًا لها جيدًا منذ انطلاق "صافرة البداية". ما بين صراعات المدرب واللعب، وهوس المشجعين، وفساد جهات سياسية، وتقصير أجهزة أمنية، والإرهاب الذي بحوم حولنا ويتسلل إلى الاستاد، ونظرية "المؤامرة" التي تسيطر على عقول كثيرين، تدور أحداث الرواية التي تقع في 220 صفحة من القطع المتوسط، لتقدم لنا صورتنا التي نتعامى عنها، في مرآة كرة القدم.