جاءت حادثة الطيارة الروسية؛ لتزيح الستار عن حالة مزرية، تعيشها مصر المحروسة في الاجتماع والسياسة، كذلك في الاقتصاد والثقافة، فلأول مرة في تاريخ الشعب العظيم؛ تسيطر عليه حالة من الذهول والتفكير الغشيم، فيختصر مصر في قرية شرم الشيخ، وتنخرم مروءة القاضي والمفكر والشيخ، فيهرولون إلى المنتجع، وكل منهم يصيح أنا الجدع؛ القادر على إعادة الروس والصقالبة والهكسوس، أنا من سينهض بالسياحة، أنا من سيرقص في الفندق والساحة؛ حتى أقنع العالم أن مصر العظيمة لن تتألم من قرارات السوفيتي الأخير، أو تآمرات الإنجليزي المكير، لأنني سوف أملأ فنادق المنتجع ببشر يسوون البِدع.. وعادت مصر إلى سيرتها القديمة، تعالج الأزمات الطاحنة بالكلمات والعبارات العقيمة، وتُحوِّلُ كل أزمة إلى مَكْلَمَةٍ يتربح منها أتباع سجاح والكذاب مسيلمة. لقد كانت حادثة الطائرة كاشفةً عن حالة من الفشل فاضحة، فمصر أقدم الحضارات؛ وفيها عجائب التاريخ والأثارات، مصر التي تحوي ثلث أثار العالم، من كل العصور والأديان والمعالم، هذا المتحف العظيم المفتوح؛ يتم إختزاله في منتجع صغير أسمه شرم الشيخ… أليست هذه وكسةٌ كبيرة، وفضيحة خطيرة؟ أليس هذا من بؤسنا الإداري والثقافي، وفشلنا الواضح وغير الخافي؟ يا أهل مصر الكرام، يا من خبرتم تجارب السنين والأيام، لماذا لا تنظرون في حالكم، وتنقدون عيوبكم؟.. لماذا لا تتعلمون من تجارب غيركم؛ حتى تغيروا من أحوالِكم؟.. ألم تسمعوا عن دول تجذب ملايين السائحين ويهفو اليهما كل حي؟.. ولا يوجد فيها معابد وأثارات، ولا الغردقةوشرم الشيخ والعيون الساخنات،.. الحقيقة أن سر نجاح هذه الدول في جذب السائحين هو الإدارة الحكيمة، واحترام النظم والقوانين، فيهما الخدمة الراقية، والخدمات الرفيعة العالية، فيهما يسعد الإنسان بالإجازة دون مضايقات وعداوات وحزازة، لا مكان لغش البائعين، ولا لغلاسة السائقين، تأكل الطعام وأنت على يقين أنه ليس من كلب عقور أو حمار سمين.. فيهما أشياء مفيدة لمن أراد أن يستفيد، ويفيد أمته ومن الخير يستزيد. يا حكام مصر ورجال أعمالها، لقد أهدرتم ثروات مصر وخيبتم آمالها، أليس من العيب والعار، والفضيحة والشنّْار، أن يعتمد اقتصاد مصر على فقراء الروس، وأن تتوسل الحكومة وشعبها ابن الفرطوس؛ بأن يعيد السياح؛ حتى نستطيع أن ننام ونرتاح، فطعامنا من بقايا نفقاتهم، وكسوة أطفالنا من إكرامياتهم.. أليس من العيب والعار أن يكون هذا حالُ شعبِ الأحرار، الذي ثار في وجه كل مستعمر جبّار؛ منذ زمن الهكسوس، واليوم يتوسل أن يخدم السيَّاح الروس؟. مصر أكبر من الغردقةوشرم الشيخ، مصر قبلة المسلمين والمسيحيين واليهود، ويعشقها الهنود من الهندوس والسيخ، مصر فيها ما يجذب كل السياح.. ولكن لن يسعد واحد منهم على أرضها أو يرتاح، ستكون رحلته عذاب، وسيكتب كل منهم عن مأساته كتاب، وقد تنوع ما كتبوه، وفي النقاط الآتية ما سطروه: أولا: فوضى المطار ستشعر السائح أنه في بيت علي بابا أو في الغار، الأربعين حرامي صاروا بالمئات، وكل منهم يهمس في أذنه حمدا لله على السلامة..هات..هات، أما خدمة الجوازات، وتكشيرة الضباط والضابطات؛ فتحتاج إلى فصول، ويتسع فيها القول ويطول، ومضيفات مصر للطيران بنات الذوات، الهوانم اللائي يحتجن إلى خادمات، تخاف من تطلب من إحداهن خدمة فترمقك بعين تقول لك من أنت يا رمة، حتى تطلب مني كوب ماء، وأنا ابنة الباشا واللواء، فيكفي السائح أن يمر بمطار القاهرة، ليقسم بالطلاق إن هذه هي المرة الأخيرة. ثانيًا: وإذا ما خرج سالما من المطار تلقفه سائقو التاكسي من العيَّارين والشطَّار.. ليموزين.. يابيه؛ وما هي إلا عربة متهالكة يجرها حمار، مبالغة في الأجرة، واستغلال يجلب المعرة، وهذا هو حال سائقي التاكسي في مصر المحروسة، سيارات قذرة لا تليق بآدمي، وأجرة مرتفعة وسائق دموي، لا يعرف معنى الأمان، ولا يحترم في الكون إنسان، يجلس فيها السائح خائفا يموت من شدة الذهول، من شارع فوضوي وسائق مسطول، يتكلم في التليفون ويستعرض للسياقة فنون، فبدلا من أن يكون همَّ السائح مشاهدة. المدينة والمعالم؛ يصبح كل أمله أن يصل الفندق سالم. ثالثاً: وإذا ما دخل الفندق يرى الفوضى في الصالة عارمة، موظفون يتصايحون ويتلامون وموظفة نائمة، يذهب إلى غرفته بعد عناء؛ فلا يجد فوطة ولا صابون، وقد تأخر في وضعها الفاسدون؛ حتى يحصلوا على البقشيش والإكرامية والعربون، وهذا ديدنهم كل يوم؛ يؤخرون الخدمة ليأخذوا المعلوم، والطعام وقاك الله شر العناء، منه المخزون منذ أيام، ومنه ما يثير الغثاء، لأنه مطبوخ من سنين ولم يؤكل لقلة النزلاء. رابعا: إذا خرج السائح للتسوق أو للفسحة تلقفه سائقوا التاكسي وإستغلوه؛ ثم لمن يدفع من الثمن النسبة باعوه، والبائعون في الأسواق عندهم سعران؛ واحد للمصريين والآخر للسائحين، يسمونه سعر سياحي، وهو على الأقل الضعف أو الضعفين، بدون ضابط من أمن أو قضاء؛ فالكل مشغول بالأمن السياسي، يشعر السائح بالإستغلال والظلم، وهو شعور مرير يذهب السعادة ويجلب الغم. خامسا: إذا ما أراد زيارة موقع تاريخي؛ فالحال سئ، والمكان قذر ومذري، لا توجد حمامات، وأن وجدت فهي مغلقة بأمر البشوات، لا يفتحها إلا بإذن الوزير كما نشرت الصحف في حادث شهير، وإستغلال الصيِّع والمشردين؛ ممن يؤجرون الخيول والجمال، الركوب بدولارات والنزول بملايين، سلوك يذهب بعقل السائح ويصيبه بالذهول، كيف يكون الركوب بسعر، وسعر مضاعف للنزول؟. سادساً: نحن شعب لا يرحب بالسائحين، يرى فيهم غنيمة وصيد ثمين، الكل يريد المنفعة بأي وسيلة، الإستغلال أو التسول أو التحرش والرذيلة، من هو ذاك السائح الذي يأتي لأم الدنيا، هم فقراء السياح والطبقة الدنيا، الذين لا ينفقون، ولا يبقششون، ورغم ذلك نبكي عليهم بكاء الثَكَلَه، لاننا مازلنا من عشاق النِكْلَة، أي شئ … يابيه …خير من بلاش، عقلية المتسول والكناس والفراش. سابعاً: يا وزير العدل … ليس دورك قيادة مظاهرة للقضاة في شرم الشيخ، فهذا قام به الفنانون والرياضيون والصحفيون ومواطنون من أسوان إلى كفر الشيخ، دورك سيدي أن تضع القوانين والنظم واللوائح؛ التي تجذب وتسعد وتحفظ حقوق السائح،….ويا وزير الأوقاف…هل يليق بمشايخ وزارتك التجول في المنتجع بالقفاطين؟ أم أن مهمتك تثقيف مجتمع ليتخلق بأخلاق الدين؟… فلا يستغل ولا يغش، ولا يسرق السائح بمبرر الإكرامية والبقشيش،… ويا وزير النقل…هل في مصر شارع أو تاكسي أو سيارة تجذب السائحين؟ … أرجوك أن تزور دبي أو سنغافورة أو حتى الفلبين، ويا وزير الداخلية… أين جنودك من حفظ القانون…وحماية السائحين، ومنع السارقين والمستغلين….معذرة رجال وزارتك هم أول من يطرد السائحين ويعطيهم أسوأ صورة عن المصريين، ويا وزير الآثار….فقط حمامات تحفظ كرامة الأدميين، في كل المزارات و معابد أجدادك الفراعين. أزمتنا في القاهرة وليست في شرم الشيخ أو السياحة، ومصيبتنا في الإنسان المصري وثقافة الفكاكة والبجاحة.