نفير.. نفير.. نفير.. إلحاح الصرخات الصناعية ينطلق من كل مكان، فلا يغادر الحيز الخانق لتكدس الأجساد الصفيحية. وُقف محرك السيارة، أُعيد فتح زجاج النافذة الذى سبق وأغلقته مختبئا من برد ليلة شتوية يقرص وجهى فى الطريق الزراعى.. - قطر البضاعة يمر.. أليس كذلك؟ حشرجة الوهن فى صوت جدى تنبهنى.. ألتفت إليه.. أجد عينيه مفتوحتين على ذبول المرض، رأسه بالكاد يرفعه فوق مستوى البطانية الثقيلة التى تدثر جسده على المقعد المجاور.. - لا أعتقد.. نحن لسنا حتى قريبين من أى سكة قطار. - ما الأمر إذن؟ أهز رأسى.. - لا علم لى. يسعل.. أسأله إن كان يريدنى أن أغلق النافذة، فيتمسك بها مفتوحة.. أعرف أنه ما من خطر قد تحمله له رياح المساء، أشد وطأة من جهد السفر عبر تلك الطرقات الزراعية نصف الممهدة، وهو من يفترض به أن يبقى قيد الفراش بأوامر أطبائه... - اللعنة على الأطباء! (همس بها فى أذنى عندما فتح عينيه ليجد جسدى مسترخيا على مقعد مجاور لفراشه) أنا أموت يا بنى.. لا دخل للأطباء فى هذا الأمر.. فقط دعنى أمُت على فراشى.. أعدنى إلى القرية. إصرار الألق الأخير فى عينيه يدفعنى إلى طاعته، وارتكاب تلك الحماقة. أحمله حملا.. نتسلل عبر باب خلفى للمستشفى.. أملأ سيارتى وقودا وننطلق عبر بوابة المدينة. - اللعنة على الزحام! أسعد بكونه ما زال معى.. إغماض النوم لعينيه يقلقنى. طوال الطريق أجد بصرى متعلقا بجسده الهامد، مفتشا عن أثر حركة صدره تحت بطانيته. لو مسَّه سوء فى الطريق فلن أسامح نفسى. - أتريد شيئا يا جدى؟ يبتسم.. - ما قولك إن طلبت منك سيجارة؟ تطربنى ابتسامته.. - لن ألبى طلبا كهذا. - إذن لا داعى لسؤالك. أبتسم عندها.. أتأمل انطلاقته الشاردة عبر نافذة لا تعكس أى فراغ أبعد من جسد السيارة الملاصقة.. - هذا ما تناله من طول العمر.. - ماذا تعنى؟ يعيد عينيه إلى دفء السيارة.. يطلق صوتا مجروحا بأكثر من تعب السنين.. - كلهم رحلوا يا بنى.. كلهم.. - أطال الله عمرك يا جدى. يضحك حتى تختنق أنفاسه ويسعل، فأنصرف عنه ليرتاح. نفير أو اثنان ما زال مطلقاهما لم يصابا بعد بيأس.. كثيرون ترجلوا بجوار سياراتهم.. منهم ذلك البدين على مقربة منى، شد انتباهى إشاحته بوجهه كل فترة عن ضحكة يخشى افتضاحها.. تتبعت مسار نظراته بحثا عما يضحكه... رنين الهاتف يقطع تأملاتى.. - إنه أبى. لاحظ جدى ما بصوتى من توتر، وارتباك محفور على وجهى العالق بشاشة الهاتف المضيئة، فقال ساخرا: - ربما اكتشفوا الهروب الكبير. شجعتنى سخريته، فتلقيت المكالمة. ربما أدرك جدى الألم المكبوت على وجهى -وربما كان صوت أبى الصارخ، يفيض عن حدود أذنى إلى فضاء السيارة- فأشار إلىّ أن أعطيه الهاتف.. - ماذا جرى؟ أمخطئ هو أن لبى طلبا أخيرا لعجوز يُحتضر؟ تركت جدى يحادث أبى وعدت أنشغل بالبحث وراء نظرات الرجل البدين. وجدته قد غادر مكانه.. يتقدم إلى الأمام خطوات متطلعا إلى أفق ما. عدت إلى حيث الاتجاه الذى كان ينظر إليه فى الخفاء من قبل، فوجدت ذلك الرجل بجوار سيارته يقف على ساقين مقوستين. لم أجد فى مظهره ما يضحك، سوى ضحكة ارتسمت على وجهه كلما ذهبت نظراته تجاه الرجل البدين الذى مر بجواره للتو! - لا تهتم به.. أعادنى صوت جدى إلى السيارة.. - من تقصد؟ - أبوك.. لا تبالٍ لثورته.. أنا أبوه، وأنا من يقول لك هذا. لاحظت حالة الانفعال التى يتجه إليها، فحاولت تهدئته.. - لا شىء يهم.. بإذن الله ستكون فى فراشك قبل شروق الشمس، ولن تمر ساعة إلا وأبناؤك وأحفادك قد التفوا حولك. ابتسم وشخصت نظراته، فأدركت أنه قد تعايش مع هذا المشهد. كلمات غاضبة لاحظتها تسرى بين الناس المتحلقين حول سياراتهم.. ترجلت لأستكشف ما يحدث.. على مقربة منى كان البدين يتحدث مع الرجل مقوس الساقين.. دنوت منهما، فبادرنى البدين موضحا: - موكب سيمر فى أى لحظة عبر التقاطع أمامنا، ومتاريس الشرطة تغلق الطريق. - موكب؟! الآن؟! رسم البدين على وجهه تعبير حيرة، ثم قفل عائدا إلى سيارته، فلم تفُتْنى ملاحظة ضحكتين انطلقتا، واحدة من فمه، وأخرى من فم مقوس الساقين، بمجرد أن التقى ظهراهما! عدت إلى السيارة.. كان جدى مغمض العينين منتظم الأنفاس.. أدركت أنه الآن يحلم بتجمع الأبناء، أو بتجمع من سبقوه إلى باب الخروج.. تقاسيم وجهه فى استرخائها، رسمت ملمحا لسعادة لن تتحقق إن استيقظ على خبر حبسنا وراء متاريس الشرطة.. حمدت الله أن عاد إلى سُباته.. تمنيت أن يتملكه نوم ثقيل هادئ حتى يفيق الطريق من غفوته. أحكمت عزل البطانية لجسده.. أغلقت النافذة بينى وبين صقيع الخارج.. ثم بدأت أسلى نفسى -من وراء الزجاج- بمتابعة البدين ومقوس الساقين، وإصرار كل منهما على الضحك من مظهر الآخر!