ترجمة- أحمد شافعي كل وجبة كان يمكن أن تكون الأخيرة.. ولكن «مارجوت فولك» المرأة التى كانت تتذوق طعام أدولف هتلر عاشت حتى حكت قصتهاالمرأة التى على مدار أكثر من عامين كانت مرغمة على تذوق وجبات الزعيم النازى والبالغة من العمر خمسة وتسعين عاما تحكى ل«دير شبيجل أونلاين» حياتها مع الخوف الدائم كان يمكن جدا أن يأتى الموت فى صورة شىء فى بساطة بعض الهليون، المقشر المقدم مع صلصة لذيذة على الطريقة الألمانية التقليدية، ومع زبدة حقيقية، وما أندرها فى زمن الحرب. فى ذلك الوقت، وبينما بقية الشعب الألمانى يناضل للحصول على مجرد فنجان قهوة، أو يضطر اضطرارا إلى تخفيف السمن الصناعى بالدقيق قبل فرده على الخبز، كان بوسع مارجوت فولك أن تنعم بمذاق طبق من الخضراوات، لولا الخوف من الموت. كانت فولك إحدى خمس عشرة امرأة مرغمات على تذوق طعام الزعيم النازى أدولف هتلر طوال سنتين ونصف السنة فى أثناء الحرب العالمية الثانية. كانت السكرتيرة ذات الأربع والعشرين سنة قد هربت من شقة أبويها التى تعرضت للقصف فى برلين فى شتاء عام 1941، وسافرت إلى بيت أصهارها فى قرية جروس بارتش فى شرق بروسيا، التى تقع الآن فى بولندا وتحمل اسم باركتس. كانت قرية جميلة وادعة، وكانت تعيش فيها فى بيت ذى حديقة كبيرة. لكن على بعد ثلاثة كيلومترات فقط، كان الموقع الذى وقع عليه اختيار هتلر ليكون مقرا للجبهة الشرقية.. عرين الذئب. ذات الرداء الأحمر تقول فولك «كان عمدة العش الصغير نازيا عجوزا، ولم أكد أصل حتى ظهرت على الباب قوات الوحدة الوقائية SS وقال أحدهم: تفضلى معنا». تجلس فولك فى نفس الشقة التى ولدت فيها قبل خمسة وتسعين عاما فى منطقة شمارجندورف ببرلين، تتناول بحذر فتات كعكة بشَوْكة فضية، وتقول: «لذيذة». تعلمت فولك من جديد أن تستطيب الطعام، ولكن ذلك لم يحدث بسهولة. اصطحبها سفاحو هتلر، هى وغيرها من الشابات، إلى ثكنات قريبة من كراوندورف، حيث كان الطهاة يطبخون طعام عرين الذئب فى مبنى من طابقين. كان مسؤولو تقديم الطعام يملؤون الصوانى بالخضراوات، والصلصات، وأطباق المكرونة، والفواكه، ويضعونها على مائدة خشبية فى غرفة كبيرة هى التى ينبغى أن يجرى فيها تذوق الطعام. تقول فولك «لم يكن هناك لحم قط، لأن هتلر كان نباتيا. والطعام كان طيبا، طيبا للغاية، لكننا لم نكن نستمتع به». فى شرك عرين الذئب كانت هناك شائعات بأن الحلفاء يخططون لقتل هتلر بالسم. وبعد أن تؤكد النساء أن الطعام آمن، كان أفراد من قوات الوحدة الوقائية يأخذونه فى صناديق إلى المقر. فى الثامنة من صباح كل يوم، كانت قوات الوحدة الوقائية تنتزع فولك من نومها بصياحهم من تحت شباكها «مارجوت، اصحى». لم تكن فى حاجة إليها إلا فى حال وجود هتلر فى عرين الذئب ولو أنها لم تره مطلقا رأى العين. وهكذا فإن شابة رفضت الانضمام إلى عصبة فتيات هتلر وهى النسخة البناتية من «شباب هتلر»، وضاع أبوها لرفضه الانضمام إلى الحزب النازى، تحولت إلى إحدى معاونات هتلر. وهكذا صارت هذه الفتاة تضحى بحياتها كل يوم من أجل رجل لا تشعر نحوه بغير الاحتقار. ولم يكن الرحيل خيارا مطروحا من الأساس. فقنابل الحلفاء دمرت شقتها فى شمارجندورف. وزوجها كارل كان فى الحرب، ولم تكن منذ سنتين قد سمعت عنه أى خبر، فكانت تحتسبه ميتا منذ وقت طويل. تتساءل «إلى أين كان بوسعى أن أذهب؟». على الأقل، كان لديها فى جروس بارتش، حماتها، وسرير. وجاء العشرون من يوليو سنة 1944. ووجه بعض الجنود الدعوة إلى نساء لحضور عرض لفيلم فى خيمة مقامة على مقربة من المقر، عندما انفجرت قنبلة الكولونيل كلاوس فون شتاوفنبرج. ف«انتزعنا الانفجار من على الآرائك الخشبية» ثم صاح شخص أن «هتلر مات». ولكن محاولة الاغتيال فشلت، تقول فولك «وخرج منها ببعض الرضوض والكدمات». بعد ذلك قام النازيون بتشديد الإجراءات الأمنية حول عرين الذئب، ولم يعد مسموحا للمتذوقات أن يعشن فى بيوتهن. فتم تسكينهن جميعا فى مدرسة قريبة، «وبتنا فى حراسات دائمة كأننا حيوانات فى قفص». الفرار إلى برلين وذات ليلة صعد ضابط من قوات الوحدة الوقائية على سلم خشبى، ودخل من الشباك إلى غرفتها، واغتصبها. تقول إنها لزمت الصمت فى أثناء اغتصاب «الخنزير العجوز» لها، مضيفة أنها لم تشعر بقلة الحيلة مثلما شعرت بها وقتها. «وفى الصباح كان السلم لم يزل مطروحا أمام المبنى». تتكلم بهدوء، وتقول إن من المهم لها أن تؤخذ قصتها مأخذ الجد. حينما كان الجيش السوفييتى على بعد كيلومترات قليلة من الوصول إلى عرين الذئب، جاء ضابط برتبة ملازم إليها وقال لها «اذهبى، اخرجى من هذا المكان». ووضعها فى قطار متجه إلى برلين فأنقذ حياتها. ورأته مرة ثانية بعد الحرب فقال لها إن كل متذوقات الطعام قتلن برصاص الجنود السوفييت. نجت مرة أخرى عندما أخذها طبيب فى برلين بعد فرارها من عرين الذئب. وعندما طرق جنود من قوات الوحدة الوقائية بابه يسألون عن وجود هاربين كذب عليهم فذهبوا. غير أنها فى طريق عودتها إلى شمارجندورف وقعت بين أيدى الجيش السوفييتى. وعلى مدار أسبوعين ظلوا يغتصبونها بلا توقف، متسببين لها فى إصابات منعتها إلى الأبد من الإنجاب. تتوقف عند هذه الذكرى المؤلمة، وتقول ذات الخمسة والتسعين عاما فى همس «كنت فى منتهى اليأس. لم تعد بى أى رغبة فى الحياة». حيلة للبقاء لم يحدث إلا بعدما التقت زوجها كارل سنة 1946 أن شعرت مرة أخرى ببصيص من الأمل. كانت سنوات الحرب والأسر قد تركت علاماتها عليه، فظلت تمرضه حتى استرد صحته، وقضيا معا أربعا وثلاثين سنة فى سعادة. تبتسم فولك حين تتذكر زوجها. فهى بعد كل هذه التجارب لا تشعر بالمرارة. بل العكس فى واقع الأمر. هى ترتدى سترة زرقاء وعقدا ذا حبات خشبية. وتستخدم مساحيق التجميل أيضا أو تقوم على حد تعبيرها ب«طلاء» نفسها. تقول إنها برغم الماضى تحاول دائما أن تكون سعيدة. تقول «لم أفقد حس الدعابة، وإن يكن صار أكثر تهكما». قررت أن لا تأخذ الأمر بأكثر مما ينبغى من الجدية، و«تلك كانت حيلتى دائما من أجل البقاء». ولكن فولك ظلت لوقت طويل لا تريد حتى أن تفكر فى ما جرى فى جروس بارتش، ناهيكم بأن تتناقش فيه. ولكن التجربة ظلت تلح عليها فى أحلامها. ولم يحدث إلا فى هذا الشتاء، حينما قام صحفى بزيارتها بمناسبة عيد ميلادها الخامس والتسعين وبدأ يطرح أسئلته عليها، فحكت عما تعتبرها أسوأ سنوات عمرها. فى تلك اللحظة قررت بغتة أن تكسر الصمت. تقول «وجدتنى ببساطة راغبة فى أن أحكى ما جرى هناك، وأن أقول إن هتلر كان شخصا بغيضا إلى أبعد الحدود. كان خنزيرا». عن «دير شبيجل» فى 4 أبريل 2012