تنسحب أمواج البحر المتوسط بنعومة لتكشف أطراف الرمال الذهبية على شاطئ برودوم التركي.. عبد الله الكردي يصارع الأمواج العاتية بعد غرق القارب المتهالك الذي كان يركبه للوصول للشاطئ الأوروبي؛ لإنقاذ عالمه الصغير.. ولديه وزوجته من الموت غرقا. السائحون على الشاطئ يتمتعون بصفاء الجو وجمال الطبيعة ومستمعين لضحكات أطفالهم الذين يبنون قلاع الرمال، وعبد الله يحاول إنقاذ "إيلان" ولده الأول..يموت بين يديه، يتركه ويذهب لإنقاذ الآخر "غالب"؛ لكن الموت كان غالب عبد الله، عابثًا.. بحث عن "ريحانه" أسرته، لحقت بإبنيها. فجأة.. تحول الضحك على الشاطئ الهادئ إلى صراخ، يشبه عويل دمشق، هُدمت القلاع الرملية أسوة بما حدث لأختها الأثرية فى تدمر، "وجدنا جثة.. إنه طفل"، إنه "إيلان الكردي". وقوبل الصخب العالمي، بصمت في العالم العربي، ولم يستيقظ ضميره حتى الآن، وهو الأمر الذي دفع عدد كبير من النشطاء إلى استنكار الموقف العربي، عبر تدشين هاشتاج على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" تحت عنوان "الضمير العربي"، ولكن هذا الصمت العربي ليس بالشئ الجديد، فمقتل محمد الدرة وطفلة الجنوب السوداني وعلي دوابشة، قابلها العالم العربي، جميعا على طريقته الخاصه، "نشجب بأقصى العبارات"، هذا أقصى رد من الممكن أن تلقاه من الحكومات العربية، ففقي الوقت الذي تستقبل فيه أوروبا مئات الآلاف من اللاجئين السوريين، حتى أن رئيس وزراء فنلندا فتح منزله لاستقابلهم، ونادي بايرنن ميونخ الألماني فتح لهم مدينتة الرياضية وتبرع بالأموال، مازالت الكثير من الدول العربية تقفل حدودها في وجوههم، حتى أن السعودية منعت الحج على السوريين. قصص الخذلان: محمد الدرة واقعة الطفل السوري ذو السنوات الثلاث "إيلان كردي" صدمة العالم، لكنها لم تكن قوية بما يكفي لإيقاظ الضمير العربي، الذي لم تزعج نومه أيضًا عدة وقائع أخرى بدءًا من الشهيد محمد جمال الدرة، ففي 30 سبتمبر عام 2000، حين استطاع مصور فرنسي شاب يدعى شارل أندرلان، كان يعمل مراسلًا بقناة "فرنسا 2"، أن يوثق الحادث الذي هز العالم وقتها، وكشف حقيقة الكيان الإسرائيلي المغتصب. ويوثق الفيديو الذي صوره المراسل الفرنسي، أب ثلاثيني العمر، يختبئ خلفه في ذعر ابنه ذو الثانية عشر عامًا، بعدما اندلعت اشتباكات بين محتجين فلسطينيين وجنود الاحتلال الذين أطلقوا الأعيرة النارية تجاه الوالد وابنه، ويظهر جمال الدرة وابنه محمد وهم يختبئون خلف جدار أسمنتي، يحاول الوالد في استماتة أن يشير لجنود الاحتلال كي يتوقفوا عن إطلاق النار، لكنهم لم ينتبهوا لإشاراته، وقتلوا ابنه الذي خر شهيدًا بين ذراعيه، في مشهد هز وجدان العالم كله. استشهاد "الدرة" أشعل النار في صدور المحتجين الفلسطينيين الذين دشنوا انتفاضتهم الثانية في هذه الأثناء، لكن الحادث لم يحرك أكثر من عبارات الإدانة والاستنكار التي انطلقت من أفواه الرؤساء والملوك العرب وقتها "وماذ يفيد الاستنكار، هل يمحو العار؟". وفي هذا قال الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش: يعشّش في حضن والده طائرا خائفا من جحيم السماء: احمني يا أبي من الطيران إلى فوق! إنّ جناحي صغيرٌ على الريح… والضوء أسود يريد الرجوع إلى البيت، من دون درّاجة… أو قميصٍ جديد يريد الذهاب إلى المقعد المدرسيّ… إلى دفتر الصرف والنحو: خذني إلى بيتنا، يا أبي، كي أعدّ دروسي وأكمل عمري رويدا رويدا… علي دوابشة وفي ليلة 31 يوليو 2015، وبينما كانت أسرة سعد دوابشة التي تسكن في قرية دوما بنابلس شمال الضفة الغربية نائمة، فاجأهم قطان من المستوطنون اليهود المتطرفين، أحرقوا منزلهم بمن فيه، وكان داخل المنزل طفل رضيع "علي" لم يتجاوز ال18 شهرًا، أُحرق جسده بالكامل، ولقى حتفه على الفور، بينما باقي الأسرة أصيب بحروق في غاية الخطورة، مات على إثرها رب الأسرة بعد أيام، ومازالت أمة وأخوة الأكبر يصارعا الموت في المستشفى. وفيما اكتفت إسرائيل بالرد على أنها لا تستطيع الوقوف على أي نتائج تكتشف الفاعلين لهذا الحادث، مارس العرب هويتهم المعتادة "الشجب أقصى العبارات" - ماهي أقصى العبارات التي يتحدثون عنها-. وكتبت الشاعرة الفلسطينية أمل الشقير: أنا لستُ أبكي أنهم حرقوا الرضيع لكنني أبكي على قدسٍ تضيع أبكي على حالي وحال أحبتي أنَّا قهرناهم بخذلانٍ فظيع! رقص اليهودُ على مئاتٍ من جُثث والصمتُ عزفٌ قادهم نحو العبث حرقوا الصغيرَ وأحرقوا أرواحَنا يا أمتي لضميرِنا ماذا حدث!! الفتاة والعُقاب وفي 1993 ذاعت شهرة المصور الجنوب أفريقي كفن كارتر، في الآفاق وفاز بجائزة بوليتزر العالمية للتصوير، بعد أن نجح بصورته "الفتاة والعُقاب"، في إثارة ضجة دولية ولفت الأنظار للمأساة الدائرة في الجنوب السوداني - قبل أن يستقل الجنوب في 2011 ويصبح دولة - منذ سنوات طويلة، مأساة المجاعة، التي كادت تقضي على عدد كبير من السكان في مناطق مختلفة من البلاد، ما سمح بإقرار برامج ومخططات دولية عاجلة لإنقاذ ملايين السودانيين في الجنوب وقتها من الموت جوعا. فهي الفناة المسكينة التي لم تجد ما تسد به جوعها، لكي تستطيع الصمود في وجه الفقر والجوع، حيث كانت متواجدة في منطقة مكفرة لا زرع بها ولا ماء، لا يجود سوى عقاب منتظر احتضار الطفلة، حتى تصبح وجبة يسد بها جوعه، - للعلم مات المصور منتحرا بعد سنوات جراء إصايته بالاكتئاب-.