لا يعد سعى إدارة أوباما الأمريكية إلى خفض الانخراط الأمريكى فى الشرق الأوسط والاستدارة باتجاه الشرق الأقصى مركز النمو الرئيسى فى العالم حديثا جديدا. وليس جديدا كذلك أن هذا المسعى تباطئ بسبب تصاعد مخاطر الصراعات الإثنية والحروب الأهلية فى الشرق الأوسط. وذهبت بعض التحليلات إلى أن أحد عوامل تفاقم تلك الصراعات من خلال دعم حضور جماعات السلفية الجهادية شديدة التطرف فى سوريا هو محاولة خليجية، وسعودية خاصة، لإجبار الولاياتالمتحدة على عدم خفض انخراطها فى المنطقة بشكل دراماتيكى. لكن المؤكد أن قلقا خليجيا كبيرا من تداعيات أى انصراف أمريكى عن شؤون المنطقة قد تطال ليس فقط التوازنات الإقليمية الحرجة، خاصة فى مواجهة إيران، بل قد تطال استقرار الأوضاع السياسية فى هذه الدول ذاتها وتطرح تحديات أمام بقاء أنظمة الحكم القائمة فيها إذا حال تراجع أهميتها على سلم أولويات السياسة الأمريكية. تزايد القلق الخليجى عقب التوصل إلى اتفاق القوى الدولية، بقيادة الولاياتالمتحدة، إلى اتفاق يسوى الخلاف النووى طويل الأمد مع إيران. ويمكن أن نلمح ردود أفعال خليجية متعددة تعكس هذا القلق، من أبرزها مبادرة السعودية بالتدخل العسكرى المباشر وواسع النطاق فى اليمن، لمواجهة التهديدات التى طالت أمنها جراء سعى الحوثيين للانفراد بالسيطرة على هذا البلد. ويمثل التدخل العسكرى السعودى بهذا المدى والحجم، وبغض النظر عن مدى نجاعته ونجاعة ما يحمله من رسائل ردع إقليمية، سابقة فى تاريخ الدولة السعودية الحالية، خصوصا أنه يتم من دون مشاركة أمريكية صريحة فى العمليات العسكرية. ويمثل السعى الخليجى المتزايد للتقارب مع روسيا، بحسب ما عكسته زيارة ولى ولى العهد السعودى وزير دفاع المملكة محمد بن سلمان إلى موسكو فى شهر يونيو الماضى، وزيارة نائب رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد لها قبل أيام بالتزامن مع زيارة كل من الرئيس المصرى وملك الأردن، رد فعل ثان جلى على هذا القلق الخليجى. وإذا كان التقارب المصري-الروسى يمكن فهمه فى ضوء خبرة الدولة المصرية مع ضغوط أمريكية وأوروبية هددت عقب إطاحة حكم الإخوان المسلمين فى يوليو 2013 بالإضرار بمقدرات القوة العسكرية المصرية وأمن البلاد من خلال فرض حظر على صادرات الأسلحة إلى مصر، فإن تسارع مساعى التقارب الخليجى مع روسيا يطرح سؤالا حول ما إذا كنا نشهد محاولات عربية لإعادة روسيا إلى المشهد الإقليمى فى الشرق الأوسط بديلا عن الدور الأمريكى المتراجع فى المنطقة؟ وأغلب الظن أنه باستثناء إدراك العرب أن روسيا لا يمكنها أن تكون بديلا حقيقيا عن الدور الأمريكى، فإنه لن يمكننا على الأرجح تبين أى توافق عربى على طبيعة الدور الروسى وحدوده. وأغلب الظن أن الرؤى العربية قد تتعارض فى هذا السياق بين طموح مصرى يبدو أنه يستهدف استعادة دور روسى استراتيجى واسع المدى فى المنطقة، فى إطار مسعى أكبر يستهدف بناء حضور دولى أكثر تعددية وتوازنا فى الشرق الاوسط مما كان عليه الحال فى مرحلة محاولة فرض الهيمنة الأمريكية المباشرة على المنطقة عقب انتهاء الحرب البادرة، وبين سعى خليجى لمحاولة تحييد الدور الروسى واحتوائه فى بعض القضايا الإقليمية الساخنة بأكثر من استهداف توسيع هذا الدور وترسيخه. فى ظل هذا التباين العربى يرجح أن يكون المحدد الرئيسى لطبيعة العودة الروسية ونطاقها هو التوازنات والصراعات على مستوى قمة النظام الدولى وليس الخيارات العربية. وهنا يجب الانتباه إلى أن الرئيس الأمريكى أوباما أعلن فى 7 اغسطس الجارى، أن مساعى تسوية الأزمة السورية ستشهد أدوارا روسية وإيرانية أكثر نشاطا وفاعلية فى المرحلة المقبلة. وعقب زيارة القادة العرب الثلاث، المصرى والأردنىوالإماراتى، إلى موسكو قبل أيام، تم الكشف عن مباحثات أمريكية-روسية فى العاصمة الروسية بحثا عن حل للأزمة السورية. ولعل الدلالة البارزة فى هذا الإطار تتمثل فى أن الولاياتالمتحدة تتخلى الآن عن سياستها فى تحييد روسيا وتهميشها التى كانت بارزة حتى انطلاق الحملة الجوية لما سمى بالتحالف الدولى ضد تنظيم داعش والتى عارضتها روسيا، بل إن عودة روسية إلى المنطقة يبدو أنها هذه المرة تحظى بمباركة أمريكية. وبغض النظر عما إذا كان ما حافز هذا التحول الأمريكى هو إدراك إدارة أوباما جسامة تكلفة مواجهة المخاطر الإرهابية المتنامية والتى ساهمت فى إطلاقها فى المنطقة، أو رغبة هذه الإدارة فى استعادة زخم الاستدارة شرقا قبيل انتهاء ولايتها الثانية، يبدو أن الإدارة الأمريكية تنتقل سريعا حاليا من سيناريو التفتيت الهادف لخلق معازل طائفية ضعيفة ومتوازنة فى المنطقة والذى برزت مخاطره الجسيمة، إلى سيناريو آخر يتضمن تأسيس شراكة دولية فى مواجهة التهديدات الأمنية فى المنطقة من خلال أدوار متوازنة ومحددة لكل من روسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا. لكن هذا التحول الأمريكى لا يتفق مع الرؤية المصرية الإيجابية السابق الإشارة إليها فى هذا الصدد، بقدر ما قد يعكس هذا التحول محاولة لاستنزاف روسيا فى أزمات الشرق الأوسط. وهو الاحتمال الذى يرجحه السعى الأمريكى الحثيث لاحتواء الطموح الإمبراطورى للرئيس الروسى بوتين. وهنا تثور شكوك حقيقية حول ما إذا كانت الإدارة الأمريكية تستهدف حقا البحث عن حلول فعلية لأزمات المنطقة أم أنها تحاول الخروج من مستنقعها وتوريط الآخرين فيه؟ وفى الخلاصة، فإنه فى ظل استمرار حالة الانقسام العربى الراهنة، يرجح أن تطرح العودة الروسية أسئلة إشكالية إضافية حول كيفية التعاطى مع أزمات المنطقة، بأكثر من قدرتها على تقديم إجابات. وتبقى المعضلة عربية!