لو مدّ مخرج فيلم «واإسلاماه»، أندرو مارتون، الفيلم دقائق أخرى لرأينا بيبرس يقتل صديقه السلطان قطز فى أثناء عودتهما إلى القاهرة بعد الانتصار الكبير على التتار فى عين جالوت. لم يكن هذا الفعل المشين شيئًا فاجعًا فى دولة المماليك رغم أنه بالتأكيد كان سيضايقنا كمشاهدين. جنّبنا الفيلم هذا الحزن وربما الجدل حول الواقعة، لكن التاريخ لم يصمت فقد روى الحكاية كاملة. وبعد أن وصل بيبرس إلى القاهرة، سأل كبير الأتابك: مَن قتل قطز؟ قال بيبرس: أنا. فقال له اجلس على عرش السلطنة. وبالفعل أصبح بيبرس هو السلطان، فقد كانت القوة والغدر أهم قانون فى دولة المماليك التى حكمت مصر نحو 275 عامًا، وكما يقول المقريزى كانوا يتقاتلون على السلطة بكل أنواع الغدر والخسة ولا يتورّعون عن ارتكاب أشد المنكرات والمظالم دون مراعاة لأبسط المبادئ الإنسانية، وكانوا أراذل الناس وأخسّهم قدرًا، ما فيهم إلا مَن هو أزنى من قرد وأفسد من ذئب، وكل أمير لا يحول بينه وبين السلطنة إلا السلطان الجالس على الكرسى، فلا بد من خلعه وإبعاده أو قتله أو حبسه. وبهذا تفشّى منطق المؤامرة والخديعة والرشوة والقتل للوصول إلى الحكم. وقد حيّرت ظاهرة المماليك علماء النفس والاجتماع، ناهيك بعلماء التاريخ، حيث يرى التحليل النفسى والاجتماعى للمماليك العبيد أن العلاقة بينهم لم تكن علاقة صداقة ولا أخوة ولا بنوة وإنما علاقة يحكمها الخوف، فكل مملوك يخشى أن يشى به المملوك الآخر عند سيده، لأنه لا توجد رابطة من أخلاق أو دين أو قرابة بين العبيد. وأن الحاكم المملوك كان يتفنن فى الإيقاع بين مجموعات المماليك التابعين له وينجح فى ذلك بالأسلحة المملوكية الفتاكة، مثل المهموز والزنبة والدبوس. وكل أمير أو مسؤول مملوكى له مماليكه الخاصون به يضمن ولاءهم، وكل مدير أو رئيس يكون له رجاله أو عيونه على رجال الرئيس أو المدير السابق، وبهذا أصبح الولاء مفضلًا على الخبرة والعلم والمعرفة، وكل مسؤول لا يهتم إلإ بمماليكه الذين ينقلون له أخبار الآخرين. وقد حكم المماليك مصر عشرات السنين ونقلوا عاداتهم وأخلاقهم السيئة إلى المصريين، ولعل هذه كانت أكبر كارثة أصابت الشخصة المصرية الوادعة، حيث أصبح الوصول والترقّى فى أى وظيفة لا يعتمد على الكفاءة والمعرفة وإنما يعتمد على علاقتك بالمملوك (المسؤول) الكبير، وهل أنت من رجاله أم لا، وحتى عندما تصبح من رجاله فهذا يعنى الولاء التام والثناء بين لحظة وأخرى على عبقريته مهما كان تافهًا. أما إذا كنت معتصمًا بالعمل والكبرياء، فسوف تجد تحالفًا غير مرئى يضم عديمى الموهبة، وهو تحالف قوى لا يتورّع عن استخدام أحط الأساليب وأخسّها للإيقاع بك والوشاية عند المسؤول الكبير، فذكاء المرء فى بلادنا محسوب عليه، وفى جميع الأحوال يجب أن تدفع ثمن علمك ومعرفتك اضطهادًا وتنكيلًا. ونظرة على الساحة الإعلامية والسياسية والثقاقية والفنية، سوف تجد أن من يتصدرون المشهد فى كل مجال هم أقل الناس علمًا وثقافة وموهبة وفكرًا، بينما ينزوى الشرفاء فى صمت لأنهم لا يستطيعون أن يزاحموا بالمناكب ليبدعوا، ولا أن يستخدموا الأساليب الفاجرة فى الصراع والتنكيل للصعود على جثث الآخرين. وقد عاش الإمام علِى بن أبى طالب هذا الموقف العصيب فى صراعه مع معاوية عندما قال البعض إن معاوية انتصر بدهائه، فقال الإمام الرائع لأصحابه: والله ما معاوية بأدهى منّى ولكنه يفجر ولولا مخافة الله لكنت أدهى الناس. عودة لفيلم «واإسلاماه»، طبعًا أنا من المعجبين بالفيلم، بل وأحس أن المخرج ما زال يعيش بيننا وأنه يصوّر دائمًا لحظات الانتصار عندنا فقط، لكنه أبدًا لا يمد الفيلم مجرد دقائق أخرى لنرى الفساد والاستبداد والظلم.. إنها سلطة المخرج.. لكن التاريخ لا يرحم ولا يخفى شيئًا أبدًا، فانتبهوا أيها السادة الحياة ليست تمثيلًا وفقط.