كتب: علاء عزمي كلاهما هرول بإصرار مريب صوب الفض الدموى ل«رابعة العدوية».. سلطة ما بعد «30 يونيو» 2013 أهدرت بغرابة شديدة كل فرص تجنب اللجوء إلى الحل الأمنى، بل وتجاهلت بثأرية لا يمكن إخفاؤها كل وسائل إنهاء التجمع الأخطر لقادة وكوادر الإخوان وحلفائهم، بأقل عدد ممكن من الخسائر والضحايا، رافعة شعار «هيبة الدولة فوق الجميع». بينما كانت الجماعة فى أكثر لحظاتها انتهازية وإجرامًا على الإطلاق، ففوتت أى حل أو احتمال لعدم حرق أبنائها فى مواجهة غير متكافئة، ومحكوم عليها بالفشل قبل أن تبدأ، بينما شهد القاصى والدانى كيف كان إصرار التنظيم كبيرًا على سيلان دماء عناصره والمتاجرة بها فى مزاد علنى على النفوذ، وفى صراع قذر على كرسى السلطة. كان بإمكان الدولة كنس الاعتصام ببضعة مدافع للمياه بعد دقائق من عزل محمد مرسى، فى 3 يوليو 2013، لكنها لم تفعل. ساعتها انهار كثيرون من أنصار الإخوان، وخرجوا جماعات من ساحة التجمع، ليصبح شبه خاو، ومع ذلك لم تتحرك السلطة وذراعها الأمنية لإنهاء القصة قبل أن تتضخم. قيل فى ذلك الوقت فى تبرير هدر تلك الفرصة الذهبية، إن المجتمعين على خارطة الطريق، كانوا يريدون إيصال رسالة لعموم الإخوان، وكذا للمجتمع الدولى، أنه لا نية لقمع أو هدر حرية أحد فى الانحياز السياسى وفى التعبير عنه بالطرق السلمية. ربما يدعم ذلك الدعوة التى اعترف بتلقيها رئيس مجلس الشورى الإخوانى السابق، محمد سعد الكتاتنى، لحضور اجتماع ترتيب الأوضاع قبل ساعات من إعلان وزير الدفاع آنذاك، الفريق أول عبد الفتاح السيسى، إنهاء حكم الإخوان رسميا، غير أنه وجماعته رفضا. وكانت الطامة الكبرى فى تلك اللحظات الحرجة، أن الدولة راهنت على مرشد الإخوان فى وضع كلمة النهاية للاعتصام، فتعرضت لواحدة من أنجح استراتيجيات الخديعة والتقية على يد محمد بديع، الذى أوهمهم، بعد القبض عليه، مساء 3 يوليو بقرية سياحية بالساحل الشمالى، أنه بإمكانه إنهاء المشكلة، قبل أن يتم إيصاله إلى رابعة برعاية أمنية فى 5 يوليو 2013، ليعلن تحت سمع وبصر الجميع الحرب على السلطة! وحتى حين تفاقم الاعتصام وصار مصدر تهديد حقيقى لأمن وسيادة الدولة، لماذا لم تستخدم خطط الفض المتدرجة، من الاستخدام المفرط لخراطيم المياه وقنابل الغاز، كبديل أقل دموية من الرصاص؟ لماذا ترك الجيش والشرطة وهما يبسطان سيطرتهم على الشوارع والميادين، قوافل التسليح ومواد البناء والمواد الغذائية والإعاشية تدخل إلى مقر التجمع ليتحول إلى قلعة حصينة يصعب اقتحامها دون ضحايا؟ لماذا لم يتم عزل المعتصمين، وتركهم دون دخول أو خروج من الرقعة المتحصنين بها، لشهور طويلة حتى يفضوا أنفسهم بأنفسهم؟ أغلب الظن أن تستّر الدولة خلف عصا الأمن فى تلك اللحظة الفارقة، كان بمنطق الفتوات، إذ اختارت السلطة، وللأمانة تحت وطأة تحركات فصيل يتمتع قادته بالدناءة فى التعامل، ولا مانع تحت رغبة انتقامية من بعض أجهزتها الأمنية، الحل الأسهل، لكنه كان الحل صاحب التكلفة العالية فى الدماء وفى هدر السمعة دوليا، وفى خلق عداوات داخلية من فصائل عدة (يمينية أو يسارية أو حتى ليبرالية) لا تثق بطبيعة الحال فى أى سلطة، وفى منح بعض الموتورين شهادة التحول إلى إرهابيين مجانًا. فى المقابل لم يكن اعتصام الإخوان بمحيط مسجد رابعة العدوية (وكذا فى ميدان نهضة مصر)، فى أعقاب فيضان 30 يونيو، حسب عقلية قادة الجماعة، مجرّد نافذة لإعلان الغضب من عزل محمد مرسى ونظامه، أو حتى من أجل عودة الأخير للحكم مرة أخرى.. فالقضية بدت أكثر تعقيدًا بالنسبة لهم، بينما تكفل مؤخرًا متحدث التنظيم اللوذعى الهارب، حمزة زوبع، فى فضح الأمر مؤكدًا بصراحة فجة أن التنظيم كذب على أعضائه بشأن عودة المعزول من أجل استخدام الاعتصام فى المفاوضات السياسية؟! إذن حشر عشرات، أو مئات الآلاف، من أعضاء التنظيم والكتلة السلفية السائلة والمحبّين غير المسيسين ومجاذيب الخلافة الإسلامية، فى نقطة محدودة، لكنها مؤثرة وحيوية، مروريا على أقل تقدير، كان قولا واحدا، محاولة لتأسيس مساحة حصرية لفصيل بعينه، لا تقع بطبيعة الحال تحت سيطرة الدولة، ومن ثم يمكن أن تُعلن من داخلها الحرب على السلطة، أو أن يتم مساومتها على تحريرها. اعتصام رابعة العدوية، على وجه الخصوص، كان هو النقطة الأكثر التهابا من جهة، والأكثر خطورة وأهمية من جهة أخرى، فى معركة الجماعة مع نظام ما بعد 3 يوليو، والتى دارت رحاها فوق ما يمكن أن نطلق عليه رقعة شطرنج متّسعة، امتدّت بطول مصر وعرضها، وشهدت مناطق ساخنة، مثل سيناء وكرداسة ودلجا، بينما كانت أماكن الاعتصامات هى نقاط المواجهات التكتيكية. وإذا كانت المواجهة بين السلطة من جهة، والإخوان وحلفائهم من تيارات التكفير والعنف المسلح من جهة ثانية، بعد عزل مرسى، قد اتخذت من الدم عنوانا كبيرًا لها، فإن مباراة الاعتصام فى رابعة العدوية، وكذا فى نهضة مصر، اعتمدت على آليات أكثر احترافية من جانب التنظيم ومسانديه فى الداخل والخارج، وأيضًا أكثر عمقًا، من حيث المناورة ونسج الألاعيب والفخاخ. ورغم مرور سنتين بالتمام والكمال على فض قوات الأمن لاعتصامى الإخوان برابعة العدوية ونهضة مصر، باستخدام القوة المفرطة، وفى رواية عشرات المنظمات الحقوقية المصرية، بالاعتماد على عنف وحشى يتعارض مع المواثيق والمعايير الإنسانية الدولية، فإن تداعيات ما حدث بالنسبة للجماعة وللدولة لا تزال متواصلة. لا نتحدّث هنا عن معركة أعداد الضحايا (من الجانبين الإخوان والأمن) جرّاء فض اعتصامى رابعة والنهضة. مبالغات الإخوان الفجّة بشأن إحصاء من سقطوا من جانبهم آنذاك، وكثير منهم دفعتهم القيادة بنذالة وعدم شرف لمعارك مميتة مع الجيش والشرطة والشعب، ورغم أن تلك المبالغات غير مُدلل عليها ببراهين راسخة، فقد ثبت كذب معظمها بمرور الوقت، بل ومن قبل بعض الجهات الموالية للجماعة نظريا ك«هيومان رايتس ووتش» التى حصرت الضحايا فى أكثر قليلا من 800 فقط لا فى عدة آلاف كما تزعم أبواق التنظيم. ما يهمنا هنا أن المواجهة العنيفة التى تخوضها السلطة مع الإرهاب، ومهما طالت، فلن تنجح فى التغطية على كوارث الفضّ، والتى كشفت ليس فقط عن عدم ضبط، قد يبدو متعمدًا لاستخدام العنف، ولكنها أيضًا تنم عن فشل ذريع لأجهزة الأمن فى التدريب والتأهيل والتخطيط، وفى كل ما يخص مثل تلك الأحداث والوقائع الحساسة. وعمومًا، فالوحشية الأمنية الناتجة عن جهل أكثر ضررًا من نظيرتها المبنية على استبداد وعقلية قمعية، فما بالك إذا ما اجتمع الجهل والقمع فى رأس واحد؟! إن الأهم فى اعتصام رابعة العدوية (وعلى مسافة بعيدة منه نوعا ما اعتصام نهضة مصر)، كان ما يتعلق بهدف الإخوان منه ومن استمراره تحت أى ظرف من الأساس. من المعروف أن الجماعة بدأت تجمّعها أمام المسجد الشهير، فى جمعتين سابقتين على 30 يونيو، وتحديدًا يومى 21 و28 يونيو. المقصد من ذلك كان استباق المظاهرات التى دعت إليها حركة تمرد، والعديد من القوى والتيارات الثورية والسياسية والشبابية، عبر حشد أنصار القوى الإسلامية على مسافة ليست بعيدة من قصر الاتحادية. بحيث إذا تجمّعت أعداد قليلة من معارضى مرسى أمام مقر الرئاسة، كما كان يراهن قادة التنظيم، يمكن الانقضاض عليهم من قبل دعاة «الشرعية» المرابطين فى الإشارة الأشهر بمدينة نصر، أو على أقل تقدير، لتقديم المشهد للخارج على أن للرئيس المعزول أنصارًا يساندونه، تمامًا مثلما أن له أعداء، وبالتالى ففرضية خلعه من الحكم لا تستقيم طالما أنها لا تحظى بإجماع المصريين. هكذا كان تفكير الإخوان قاصرًا، متعاليا، مغرورًا. الملايين الهادرة التى نزلت الشارع فى 30 يونيو صدمتهم. توافق 3 يوليو بين المتظاهرين والجيش والشرطة ومؤسسات الدولة المؤثرة على عزل مرسى، بدل خططهم على الفور.. ترك ساحة رابعة العدوية دونه الموت. مع انطلاق شرارات العنف والإرهاب، ردًّا على إزاحة مرسى وإخوانه من الاتحادية، وما ترتّب عليه من بدء مواجهة مفتوحة بين السلطة الجديدة (المؤقتة) والتنظيم، تمّت على أثرها حملات اعتقال واسعة فى صفوف قادة الإرشاد، فتحول الاعتصام إلى ملاذ آمن للرؤوس الكبيرة بالجماعة. الكلّ تحصّن ب«رابعة».. من المرشد إلى أصغر محبّ للجماعة، مرورًا بالحلفاء والمستأجرين. الاعتصام أصبح جيتو إخوانيا بامتياز. على مدار أكثر من شهر ونصف، كان الاعتصام ساحة لتعظيم المظلومية، ودغدغة مشاعر الأعضاء والكوادر والحلفاء، وترويج الأكاذيب عن تحالف 30 يونيو، وتبيض وجه مرسى وإخوانه، وغسل يدهم من جرائمهم السياسية والجنائية ضد المصريين، والإيحاء للخارج بأن جميع فئات الشعب مع «الشرعية». الإخوان استخدموا رابعة العدوية كوكر لشرعنة الإرهاب، والتحريض على استهداف الأقباط والأمن والنشطاء والشخصيات السياسية والعامة وإشعال سيناء، وبث الشائعات عن الجيش والسلطة المؤقتة آنذاك، واستدرار التدخل الأجنبى لإعادة مرسى للحكم. من ساحة المسجد انطلقت مسيرات لتلوين جدران الشوارع والمحال والمنازل بعبارات مسيئة للجيش والشرطة وسلطة ما بعد 30 يونيو ورموزها. الجماعة كانت تريد ترسيخ شعارات أن المشير عبد الفتاح السيسى، آنذاك، قاتل وخائن. كانت تريد اختصار خصومتها مع الشعب كله، لخصومة معه هو، ومن خلفه الجيش فقط، وتحويلهما لانقلابيين. السلطة بادلت عنف الإخوان بعنف مضاد. السلاح كان حاضرًا فى اعتصامات ومسيرات الجماعة بلا شك. الأمن لا يعرف غير لغة القوة. النتيجة النهائية لأى مواجهة بين الجانبين كانت دموية بلا شك. السلطة أزاحت الإخوان من رابعة بحلّ دموى بحت، فقدمت للتنظيم «محنة جديدة»، على ما يبدو أنها ستكون السبب الأساسى والوحيد لاستمراره لعقود طويلة قادمة، وذلك على نهج محنتى 1954 و1965. قوى خارجية حليفة للتنظيم تتحمل بدورها مسؤولية الدماء، إذ طلبت من قادته استدعاء أعضاء مجلس الشورى المنحل من كوادر الجماعة والمساندين لها، وعقد جلسات برلمانية داخل قاعات المسجد، وكذا استدعاء الوزراء الإخوان ومن سار على دربهم من أعضاء حكومة هشام قنديل، وعقد اجتماعات وزارية هناك أيضًا. الهدف المعلن لذلك، وكما روّج رئيس مجلس الشورى المنحلّ نفسه، الدكتور أحمد فهمى، آنذاك، هو عدم الاعتراف بالانقلاب العسكرى على الشرعية. لكن الهدف الخفى كان تأسيس مناخ فى مصر يقوم على شرعيتين: مؤيدى مرسى ومعارضى مرسى. دولة الإخوان بحكومتها وبرلمانها، ودولة تحالف 30 يونيو بجيشها ووزارتها وسلطتها التشريعية الممنوحة للرئيس المؤقت عدلى منصور. ما يتيح للمجتمع الدولى، أو بالأحرى واشنطن فى تلك الحالة، التدخل لحل الأزمة بين «الفصيلين المتناحرين» فى مصر. السيناريو السابق يتماهى مع ما سبق الكشف عنه، من أن عواصم غربية وإقليمية وعدت الإخوان بعد 30 يونيو، فى حال صمودهم شهرين فى اعتصامات ومظاهرات حاشدة، بإعادة مرسى إلى الحكم، أو على أقل تقدير دفع الجماعة للاحتفاظ بالجزء الأكبر من حكم مصر. هكذا أديرت لعبة الدم بين السلطة والجماعة فى رابعة وتوابعها، بينما كان بإمكان الطرفين إنهاء المعضلة بأقل قدر ممكن من الدماء، وربما عبر عدم اللجوء إلى حل الدم، لكن القائمين على الدولة لا يحفظون سوى الحلول الصادمة، والتنظيم لا يعرف سوى الخطط القذرة.