كانت تحمل ورقة تحاول بها حماية وجهها وعينَيها من أشعة الشمس الحارقة وهى تنتظر الزيارة فى سجن القناطر، فهرع جندى ليصادر الورقة خشية أن تصل إلى يد إحدى السجينات فتتحوَّل إلى رسالة تخرج إلى النور وتتلقفها الصحف ومواقع التواصل الاجتماعى. توقَّفت رسائل شوكان التى كانت تخرج من القبر، كما اعتاد أن يصف زنزانته، يبث فيها ما يفكّر فيه وما ينتابه من إحساس بالقهر والخذلان بعد عامَين حتى الآن من الحبس الاحتياطى فى سجن طرة دون محاكمة. إدارة السجن استدعت إسراء الطويل وعنَّفتها وهددتها، حسب ما قاله أهلها بعد زيارتها، عقابًا على ما نشرته من تفاصيل أيامها فى السجن، وما تلاقيه من إهمال لعلاجها الطبيعى، وتعمُّد مضايقتها ووضعها فى عنابر الجنائيات. تعرف إسراء أن خروج الرسائل ونشرها يزيد وضعها سوءًا، لكنها كما تقول فى رسالة سابقة تريد أن تحكى وهى تتمنّى انتهاء الكابوس «وإن كل حاجة تبقى كويسة». فى أثناء كتابة نصّهما «جرافيتى لشخصَين» اضطر علاء عبد الفتاح وأحمد دومة أن يقفا ليلًا على مدار أسبوعين، كلٌ فى زنزانته الانفرادية، ليهتف بالكلمات وأبيات الشعر ويصرخ بالتعديلات بدلًا من تضييع دقائق التريُّض فى مناقشتها. فى رسالة سابقة يقول دومة إن أكثر ما يؤلمه الآن هو الحنين إلى الأشياء التافهة.. الجلوس على المقهى.. المشى فى شوارع وسط البلد. تفاصيل يتشارك فيها مع آخرين رسموا منازلهم وزنازينهم كى لا ينسوا الفارق بين جدران المكانَين. لم يتغيَّر شىء مما حكاه صنع الله إبراهيم فى كتابه «يوميات الواحات» عن ذكريات السجن عام 1959، من تهريبه لأوراق أجولة الأسمنت وأقلام الرصاص ودسّ محصوله الأدبى فى المخابئ، يتكرر فى ما يحكيه عمر حاذق فى 2014 من سجن برج العرب عن الكتابة بجوار برميل قمامة وصراصير تملأ المكان. ما تغيَّر هو زيادة قائمة الممنوعات مع بداية تولِّى اللواء حسن السوهاجى، مساعد وزير الداخلية لقطاع السجون، المسؤولية، ليصير دخول الكتب أمرًا مستحيلًا. كتيبات ميكى ومقالات الصحف العادية محرمة والأوراق البيضاء كذلك. فى كتابه الأهم عن تجربة السجون «بالخلاص يا شباب»، يقول الكاتب السورى ياسين الحاج صالح: «الكتب تُضاعف حياتنا.. تمنحنا حياة فوق حياتنا وصحبة مختلفة.. وفى هذه الحياة المُضافة.. نحنُ أحرار»، ربما لهذا السبب تحديدًا لا تحب «الداخلية» الكتب وتمنعها عن سجناء يقضون أكثر فترات عمرهم ازدهارًا ونشاطًا وحضورًا بين جدران قاسية. فى عددها الرائع عن تجربة السجون فى حياة المبدع رصدت مجلة «عالم الكتاب» ما تضمّه مكتبات السجون فى العالم، وحين طلب رئيس تحريرها محمد شعير، زيارة مكتبة سجن طرة لمعرفة ما تحتويه وما يُتاح للسجناء من كتب، رحَّبت الإدارة لكنها عادت وتراجعت، ولم تحدث الزيارة رغم أن كتابًا آخر عرضته المجلة لكاتب بريطانى من أصل باكستانى يُدعى ماجد فواز، يحكى عن تجربة اعتقاله لأربع سنوات فى سجن طرة، وكيف كان متاحًا له أن يقرأ فى مكتبة متنوعة، لم يعد يتاح للسجناء الآن سوى زيارتها لدقائق معدودة. اختفت أمام هؤلاء فرص كانت متاحة فى سجون عبد الناصر والسادات ومبارك. الكتب التى قرأها صنع الله إبراهيم فى سجنَى الواحات والقلعة وكانت سببًا فى قراره أن يصير كاتبًا ممنوعة. كتب القانون والقصص والروايات وقصاصات الصحف منشورات خطرة على الأمن يصادرها من حقائب الزائرين قبل أن يلتقوا ذويهم فى دقائق مختلسة. لم يتح ليارا سلام أن تكتب عن موت جدتها بينما هى تقضى عامها الثانى فى السجن، لأنها قررت أن تتظاهر ضد قانون التظاهر، لم تخرج رسائل من مسجونين يحكون لنا عما يجرى لهم فى الحر الشديد فى سجون طرة والقناطر. هذا حال مَن نعرفهم ومَن تستطيع كلماتهم -أحيانًا- أن تتسلل خارجة لنا، ومن يجازف أهلهم بأن يحكوا ما يتعرَّضون له من مضايقات ومَن تزورهم لجان المجلس القومى لحقوق الإنسان بشكل موسمى. فما بالك بما يجرى فى سجون المحافظات البعيدة لسجناء لا نعرف أسماءهم ولا حالاتهم! «عنوان المقال من كلمات الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودى فى أغنيات فيلم (البرىء)».