بطء عملية التغيير وصعوبتها، بالإضافة إلى النكسات المتلاحقة التى تعرضت لها الحركة الوطنية المطالبة بالتغيير، وانهزامات القوى التى تدعى تمثيل التغيير فى المعارك السياسية المختلفة، جعل كثيرين يصفون ما حدث فى يناير 2011 على أنه ثورة فاشلة. ربما لن نختلف كثيرا على فشل ما قامت من أجله حركة يناير وتبخر رموزها عن الساحة، سواء بالإقصاء أو الانسحاب الاختيارى أو الفشل السياسى، ولكن المشكلة تبقى فى التحليل الخاطئ لأسباب الفشل. أشهر الأساطير حول أسباب عدم النجاح المرحلى ليناير هو غياب القيادة. لقد انهالت علينا آراء الخبراء الاستراتيجيين والمحللين المتقاعدين فى برامج التوك شو والجرائد خلال الأعوام الثلاثة الماضية، بتحليل قشرى جدا، خلاصته أن يناير لم يكن لها قائد، وبالتالى طريقها مسدود مسدود. كما أن أبناء يناير أنفسهم طرقوا جميع أبواب النخبة فى رحلة البحث عن قائد ملهم، فصدروا إلى المشهد السياسى أسماء كثيرة كنواة قيادة لحركة التغيير، كلها بلا استثناء فشلت. ولكن يبقى هذا التحليل مجرد أسطورة فى عصر اختلف فيه معنى القيادة والهدف من ورائها. فى جهد تنظيرى عظيم قام الراحل سامر سلمان أستاذ العلوم السياسية بالتعاون مع عدد من الباحثين والسياسيين الشباب بكتابة وثيقة التقطت اللحظة الثورية لحراك يناير، ليخرج منها بمانيفستو جديد لمبادئ العمل السياسى، مع اعتبار العوامل الاقتصادية والاجتماعية المستجدة. تقدم الوثيقة تعريفا جديدا للقيادة على أنها قيادة جماعية وليست فردية، فحركات التغيير فى المستقبل ليس شرطا أن يكون لها زعيم أو حزب قائد، لكن لها مئات أو آلاف القيادات الميدانية، ومن خلف الستار، التى تلعب أدوارا مهمة. فالقيادة الجماعية تقدم نماذج جديدة من القيادات الفعالة الذين كان لديهم القدرة على المبادرة وعلى تقدم الصفوف، دون أن يحتلوا المشهد كله ويحولوا الشعب إلى قطيع يسير وراءهم. كما أنه من أهم عوامل التغيير بشكل عام هو تصالح الفردية مع الجماعية، فتؤكد الوثيقة أن نجاح حركات التغيير لن يتم دون المزاوجة الخلاقة بين الفردية والجماعية، بين القبول بحق الفرد فى التعبير عن ذاته والاعتزاز بنفسه والمطالبة بحقوقه الفردية، وحق الجماعة فى أن يلتزم الأفراد بمصالحها الكلية. فالفرد يشارك فى الفعل الجماعى حينما يشعر أن هذا الفعل الجماعى لا يسحقه كفرد وكإنسان. من المبكر جدا تقديم مراجعات فكرية حول ما حدث فى يناير لتستفيد به الحركة الوطنية المصرية، ولكن هذه مجرد خواطر حول تحاليل لا أراها بالضرورة حقيقية، رغم ترديدها ليلا ونهارا لدرجة استحالة التشكيك فيها، متناسين أن الثورة التكنولوجية تطيح ليلا ونهارا بالأنماط التقليدية للعمل السياسى. طبيعة العصر الذى نعيش فيه لا يجب أن نتعاطى معها بمفهوم «مطلوب زعيم»، بل مطلوب مؤسسات ونظام، وهذا ينطبق على جميع المجالات وليس فقط السياسة. فالشركات الناجحة لم تعد تدار بمفهوم صاحب الشركة وابنه، بل هناك حوكمة شركات، وفرق الكرة لم يعد الآمر الناهى فيها هو المدير الفنى، بل أصبح هناك تداخل وتشابك بين عدة تخصصات. حتى فى المجال الفنى، فالأفلام لم تعد مجرد رؤية مخرج ما، بل إنتاج فريق عمل كبير. الأسبوع القادم إن شاء الله نتطرق إلى أساطير أخرى، إذا لم نناقشها أصبحنا رهينة لحلول سهلة وشديدة السطحية لمشكلاتنا المعقدة.