تعجبت فى شبابى، وتعجَّب غيرى كثيرون، من سر عبقرية ابن خلدون وموضوعيته العلمية وهو يكتب مقدمته مقارنة بما احتوته موسوعته التاريخية المسماة ب«كتاب العِبَر» من روايات اختلط فيها القصص التاريخى بالقصص الدينى بالخرافة والأكاذيب، لولا أن عرفت أنه لم يكتب «المقدمة» إلا بعد أن كان قد انتهى من كتابة «العِبَر». فطرح فى المقدمة ما خرج به من دروس كتابه «العبر»، وأهمها أن الناس فى عصره كانوا يتعاملون مع أحداث التاريخ باعتبارها أقرب إلى قصص النميمة منها إلى طريق لمعرفة الحقيقة واكتساب الحكمة، فكما كان هناك من الشعراء مداحون وهجاؤون وفطاحل يرون أن أجمل الشعر أكذبُه، كان هناك من يروون قصص التاريخ لمدح قوم أو لهجاء غيرهم أو لبث روايات جميلة تستحوذ على ألباب الناس بسبب غرابتها وطرافتها، فكانت أجمل روايات التاريخ عندهم أكذبها! تنبّه ابن خلدون لهذه الآفة التى أصابت التاريخ، فقرر وهو يكتب «المقدمة» أن يمارس على روايات التاريخ منهجًا نقديًّا يفضح عوارها، ويستبين به صدقها من كذبها، لكن أهم ما فعله ابن خلدون وهو يمارس التفكير النقدى فى مقدمته أنه استخلص من التاريخ قوانينه التى بمعرفتها يزداد فهمنا لحركة المجتمعات الإنسانية، ولتقلبات أحوال الأمم، ولما يطرأ على حياة الدول فيجلب لها قوة تقيمها أو يجلب عليها ضعفًا يعجل بنهايتها! أهم هذه القوانين -كما رآها ابن خلدون- هو أن للدول، كما للكائنات الحية، دورة حياة تستنزفها الدول فى عدد من الأجيال قدَّره بأربعة، قد تطول قليلًا أو كثيرًا فتبدو الدولة معمرة لكن بشروط عيّنها فى كتابه! مفكرون آخرون لم يوافقوا ابن خلدون فى نظرته هذه للتاريخ باعتباره دورات يستنسخ بعضها بعضًا، فالمفكر الفرنسى «كوندورسيه» -وكان معاصرًا للثورة الفرنسية- كان يرى أن التاريخ الإنسانى يسير فى خط مستقيم، وأنه بذلك يتقدَّم دومًا للأمام عبر مراحل حددها بعشرة، تبدأ من حالة الوحشية الأولى، وتنتهى بسيادة العقل والعلم على مسار الحياة الإنسانية التى لا تستنسخ فى تطورها أطوار البدايات. لا أعتقد أن ثمة تناقضًا أو تعارضًا بين الرؤيتَين، فكوندورسيه لم يكن ليجهل حجم الفوضى والتوحُّش اللذين اجتاحا فرنسا فى أعقاب الثورة الفرنسية، لكنه كان ينظر إلى التاريخ الإنسانى من بعيد، ويرصد اتجاهه العام لا تقلباته المرحلية، فأدرك أن الثورة -وإن أسقطت النظام القديم واحتارت فى ماذا يكون النظام الذى يعقبه- إنما كانت توفر للتاريخ طاقة دفع يحتاج إليها للتقدُّم، أما ابن خلدون فكان يبحث فى تاريخ الدول التى تتعاقب وهو يعاصر الفترة بين سقوط بغداد وسقوط الأندلس، وما استحضره ذلك فى نفسه من أفكار وتأملات فلسفية لتبين أسباب قيام الدول وقوتها، ثم وهنها وسقوطها فى النهاية، ولم يكن يملك رفاهية البحث فى تقدم التاريخ الإنسانى العام إلى الأمام وهو يعايش وباء الطاعون الأسود الذى اجتاح الأرض المعمورة كلها فى زمانه، فحوّل الكثير من بلدانها إلى مدن أشباح لم يعد يسكنها أحد! أما كوندورسيه الذى دافع عن الثورة الفرنسية، وإن انتقد ورفض كثيرًا من ممارسات الثوار، فإنه رأى فى سقوط القديم ضرورة لفتح الطريق أمام الجديد، رغم كل ما يمكن أن يسببه سقوط القديم من مآسٍ ومن ألم للبعض، ومنهم كوندورسيه نفسه الذى فقد حياته وهو قابع فى سجون الثورة! اتفق ابن خلدون وكوندورسيه إذن فى أن قانون التاريخ الأول هو حتمية سقوط القديم بعد أن يستنفد أغراضه، وبعد أن يكون قد صاغ لنفسه -دون أن يدرى- أسباب زواله، وأول هذه الأسباب، كما رآها ابن خلدون ورآها من بعده كوندورسيه، هو أن القديم إنما يستريح لقديمه، ولا يرغب فى أن ينافسه الجديد بما قد يسمح للدولة بأن تجدد شبابها من داخلها مثلما حدث فى الولاياتالمتحدةالأمريكية التى نكاد نظن أنها نفس الدولة القائمة منذ الثورة الأمريكية وحتى يومنا هذا، لكنها فى الحقيقة ليست نفس الدولة! فمن كان يتصوّر يوم الاستقلال فى الرابع من يوليو سنة 1776 أن مواطنًا أمريكيًّا أسمر البشرة يمكن أن يكون رئيسًا للدولة؟ بل ومَن كان يظن وقتها أن امرأة يمكنها أن تنافس على الانتخابات الرئاسية المقبلة؟ بل ومَن كان يظن وقتها -أو يقبل- أن يكون للمرأة أو للملوّنين حق التصويت أصلاً؟ إلى آخر هذه الأسئلة التى تثبت إجاباتها أن الولاياتالمتحدةالأمريكية قد واجهت تحديات التاريخ بما يناسبها، فهى دولة تجدد من نفسها دومًا، وتدهش العالم كل يوم بابتكار الجديد، فلا تكاد تقترب من الوهن بفعل تقادم القديم إلا ويأتيها جديد يبعدها عنه! ولو بقدر إن كان الغرض هو مجرد البقاء، أو بشكل أكثر جذرية إن كان الهدف هو التقدُّم على سلم الارتقاء البشرى الذى بشر به كوندورسيه، وها هى الدول الثلاث تنافس على صدارة المشهد العالمى رغم أنها ليست أقل منا سكانًا، ولا هى شهدت من التحديات التى تهدّد أمنها القومى أقل مما نشهد، لكنها دول تعبر عن إرادات أمم لا تهوى خداع النفس بالفكر التبريرى الذى يرى الحكمة فى كل ما تقوم به مؤسسات الدولة حتى وإن وهنت، بل حتى وإن هرمت وشاخ عقلها وكلّت بصيرتها! لا أملك قراءة المشهد المصرى المعاصر إلا وأتذكر رغمًا عنى كلمات ابن خلدون وهو يصف نهايات الدول التى تأذن شمسها بالمغيب، إذ يقول إن الناس فى أخريات الدول إنما تكثر فيهم الأمراض، وتفتر همتهم عن العمل والإنتاج «بسبب ما يقع فى آخر الدولة من العدوان فى الأموال والجبايات، أو الفتن الواقعة فى انتقاص الرعايا وكثرة الخوارج لهرم الدولة»! فالدولة إذا هرمت كثرت بها الفتن، وتكاثر عليها الخوارج، وما تنجح هذه ولا ينجح هؤلاء فى تقويض دعائم الدولة إلا إذا ظل القائم على الدولة يرفض الجديد، ويتشبث بقديم عادات الحكم وتقاليده، فتزداد الدولة هرمًا وعجزًا، وتزداد الفتن ضراوة، ويزداد الخوارج قدرة، لأن مَن يحكمون لا يملكون عقلًا تاريخيًّا، وإلا لعرفوا -كما يذكرنا ابن خلدون- أن «من الغلط الخفى فى التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال فى الأمم والأجيال بتبدل (العصور) ومرور الأيام»، وأن «أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر». قد يقول البعض ممن شاخت عقولهم، فشاخ معها عقل الدولة: وما لنا بابن خلدون وأحكامه، فقد كان الرجل تونسيًّا، ومصر -كما نعلم من أصحاب العقول اليابسة- ليست تونس! لا بأس إذن أن نذكر أصحاب هذه العقول التى يبست، فأخذت تمنع الجديد من أن يولد، أن ابن خلدون عاش فى مصر سنين طويلة، وكان قاضى المالكية فيها، ومات ودفن فى ترابها بعد أن تعلّم وهو فيها سنن الدول التى تهرم ثم تموت! لكنها عقول لا تعرف إلا القديم، فإن هى تسلطت علينا هذه العقول التى تسير بكتالوجات زمن ولّى ماتت -لا قدر الله- درة الشرق، وصدق حافظ إبراهيم حين قال على لسانها: «أنا إن قدر الإله مماتى، لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدى».. فلا قدر الله مماتها، ولا قدر لعقولهم سلطانًا علينا وعليها!