كتبت - ماجدة الجندي: في الأصل كان التماس مع التاريخ.. تلك رؤية تري أن العميد طه حسين كان مؤرخا حتي في إبداعه ونقده.. ولع حسين بالتاريخ, بذرة نبتت وهو بعد صبي, يسلم سمعه مفتونا لسيره عنتره والظاهر بيبرس وسيف بن ذي يزل وحكايات ألف ليلة وقصص الهلالية وأخبار الأنبياء والصالحين, ينصت لذلك القص من مشاعر القرية وأصحاب أبيه.. وهكذا عبر تلك القراءات المرورية تشكلت البذور الأولي للحس التاريخي عند طه حسين. فإذا ما اعتبرنا تلك مرحلة بدائية سوف نجد أن انتسابه الي الأزهر في خريف2091 أمده بنصيب من المعرفة بالتاريخ عبر كتب بعينها كانت مقررة ضمن مادة دروس التاريخ وتقويم البلدان كمؤلفات ابن خلدون والمقريزي ووفيات الأعيان لابن خلكان وسيره ابن هشام وطبقات بن سعد, أما الأثر البالغ فقد أتاه عبر ما كان يصله عن الشيخ محمد عبده الذي لم يتتلمذ عليه طه حسين مباشرة, لكن كان يكفيه ما يصله عبر شقيقه والصحاب ليصبح مفتونا بتعاليم الأستاذ حتي عد نفسه واحدا من المتأثرين به لدرجة أن دفعه امتنانه, إلي التسلل الي حيث يدرس الشيخ عبده في رواق العباسيين فسمع منه آخر درسين ألقاهما في التفسير قبل وفاته عام5091, وهناك من يري أثر الامام في العميد جليا, ليس فقط لأنه عده وأحد الذين أحيوا الحرية العقلية لكن ربما لان عناية الشيخ محمد عبده بابن خلدون قد تكون إحد أسباب اهتمام العميد فيما بعد. مع انتقال طه حسين الي الجامعة الأهلية تبدو واضحة احدي الدقائق التي تدعم هذا الولع والافتتان بالتاريخ وسيضاف الي الرؤية التاريخية فنون النقد التي لم يكن له بها عهد أيام الأزهر ومع تنوع ما كان يتلقاه من كوكبة حقيقية تحاضر في صفوف المعرفة المتنوعة كتاريخ الفلسفة والتاريخ والحضارة والجغرافية, تبرز أسماء كالعلامة المؤرخ أحمد ذكي أستاذ الحضارة الإسلامية في الجامعة الأهلية وسكرتيرها العام وعضو مجلس إدارتها وعالم الآثار والتاريخ أحمد كمال والشيخ محمد الخضري ومحاضراته عن تاريخ الأمم الإسلامية. ويشير إليه العميد في الأيام بقوله فسحر بعذوبه صوته وحسن إلقائه وصفاء لهجته, وأحب دروسه في تاريخ الخلفاء الراشدين وفتوحهم في تاريخ الفتن ودولة بني أمية والصدر الأول من دولة بني عباس. لكن انتقاله بعد ذلك إلي الجامعة الفرنسية واحتكاكه بأساطين التاريخ في الجامعة الفرنسية سوف يخفت من هذا الولع عندما يدرك أن الأستاذ الشيخ الخضري لم يكن يفعل أكثر من النقل من كتب الأقدمين في غير نقد ولا تعمق وفي أيسر ما كان من فقه التاريخ. وقبل الإشارة إلي علاقة العميد التي سوف تتعمق أكثر وأكثر في مرحلة الدراسة بفرنسا لابد أن نذكر أن حزمة من المستشرقين الذين كانوا يدرسون له بالجامعة المصرية قد أسهموا في عقد الأواصر بين العميد والتاريخ وعلي رأسهم الايطالي جيرار دوميلوني المعني بتاريخ الشرق القديم والألماني أنوليتمان والفرنسي لوي ماسينون الذي وإن كان معنيا بتاريخ الفلسفة العربية إلا عروجه علي ما أسماه حسين أصول التاريخ قد أسهم بشكل مباشر وغير مباشر في علاقة طه حسين بابن خلدون الذي سيكون موضوعا لأطروحته الجامعية.. عالمية طه حسين كانت حول أبي العلاء المعري ويري البعض أنها أقرب للتاريخ من الأدب والمادتان المكملتان للأطروحه كانتا عن الجغرافيا عند العرب والروح الدينية للخواج, والمنحة التي تقدم للجامعة المصرية طالبا السفر لفرنسا من أجلها كانت في تخصص التاريخ بعد أن تسلح بدراسة الشرق القديم وتاريخ الاسلام واللغات السامية وفي الجامعة الفرنسية بدأت العلاقة المحورية لطه حسين والتاريخ, في مونبليه أولا ثم في باريس أكثر وأكثر, فلم يكتف بدروس جامعة السوربون لكن اضاف لها الكولاج دي فرانس حيث دروس العلامة بول كازانوفا في تفسير القرآن باللغة العربية وعنايته بالآثار والتاريخ ويقدم العميد رسالته الجامعية للدكتوراة عن فلسفة ابن خلدون وليشرف عليها دور كايم من زاوية الاجتماع وكازا نرفا من زاوية التاريخ, ثم يلحقها بدبلوم آخر في التاريخ. ومنذ عودته لمصر في اكتوبر1919 لم تنقطع علاقة طه حسين بالتاريخ حتي نصوصه الإبداعية كانت مؤسسة علي نوع من الشبكة التاريخية. كيف كانت رؤية طه حسين للتاريخ؟ التاريخ علم تقريري, تفسيري, وعلي المؤرخ أن يمتنع عن إصدار الأحكام وتحكيم الذوق ووظيفة المؤرخ كما تصورها طه حسين تقرير الوقائع التاريخية وعرضها بطريقة واضحة قدر الإمكان كيف؟ أن تستكشف الأثر المادي للوقائع ثم يمتحنه ويستطقه فالتاريخ عند طه حسين يقوم علي الوثيقة, فالشك مقدم علي الاثبات والمؤرخ لا يعرض رأيه إلا بعد اثباته, ولايكون الاثبات بدون حجة او دليل وحين تقدم الوثيقة يتحول التاريخ الي اسطورة او ما يشبهها علي ضوء ذلك يمكن النظر الي كل المعالجات الحسينية للتاريخ الاسلامي..((1) علي هامش السيرة3 أجزاء(3391 3491)(2) عثمان( الجزء الأول من الفتنة الكبري7491(3) علي وبنوه( الجزء الثاني من الفتنة الكبري2591)(4) الوعد الحق059(5) مرآه الاسلام9591(6) الشيخان0691) واذا كان طه حسين قد أحدث ثورة في التاريخ الأدبي بكتابه عن السفر أو الأدب الجاهلي, فإن ثورة أخري قد فتحت وعبرت طريقا مغايرا عما كان عليه سالفوه, بكتاباته في التاريخ الاسلامي.. فقد بين مسئولية النظرة التقديسية للتاريخ عن مزالق وقع فيها السابقون ودعا المورخ الي نظرة موضوعية ومنهج موضوعي.. رفض ما أسماه بارستقراطية التاريخ ودعا الي نظرة اجتماعية للتاريخ.. يقول إن التاريخ تعود أن يغفل عن الدهماء حين تحيا وحين تموت وحين تلم بها الأحداث.. ثم يفسر كيف يكون للعامة شأن ومكانه وهي لاتملك المال ولاتعرف التجارة ولاتقوم بأمر الآلهة ولاتدير السلطان وانما تسقط حياتها تسقطا وتتلقطها تلقطا وتعيش مما يلقي إليها الأغنياء والسراة من الفتات( الوعد الحق ص81) كان يري أن لكل أمة تاريخها الصحيح والمنحول وأن التاريخ الإسلامي لم يكن استثناء.. ففيه المهمل والمنسي والمزين وهذه النقائص التي أرجعها الي النظرة التقديسية للتاريخ هي التي وجهت كتابة التاريخ عند العرب والمسلمين خاصة. وقد حلل طه حسين هذه الرواية التقديسية للتاريخ وبين خطرها ودار جدال بينه وبين المؤرخ السوري رفيق العظيم علي صفحات جريدة السياسة عام3291 كان للعظيم رواية تقديسية للتاريخ. قال فيه طه حسين يسبغون علي التاريخ الاسلامي صفة من الجلال والتقديس الديني او الذي يشبه الديني تحول بين العقل وبين النظر فيه نظرا يعتمد علي النقد والبحث العلمي الصحيح. كانت رؤيته أن حياة القدماء كلها ملك للتاريخ وأن دراسة هذه الحياة نافع للمؤرخ بل واجب عليه ولا يهم بعد ذلك رضي الناس او سخطوا انا نبحث علميا لانريد أن نرضي الناس ولا أن نسلي عنهم.. انما نريد أن تفيد وأن تستفيد.. وفي مقدمته لكتابه عثمان حسين تحدث عن الرواية التي سوف يلتزم بها في حديثه عن الفتنة الكبري, قال أنا أريد أن انظر الي هذه القضية نظرة خالصة مجردة لاتصدر عن عاطفة ولاهوي, ولاتتأثر بالايمان ولا الدين انما هي نظرة المؤرخ الذي يجرد نفسه تجريدا كاملا من النزعات والعواصف والأهواء مهما تختلف مظاهرها ومصادرها وغاياتها رحم الله العميد وأحيا منهجه وفكره.