لم تكن تريد أن تلعب دورا أرستقراطيا، رغم أنها ابنة الحسب والنسب، وابنة رئيس وزراء مصر، مصطفى باشا فهمى، وهى التى أحبت سعدا، ومالت له، وعندما توسط مصطفى بك أمين لخطبتها لسعد أفندى، ثار بعضهم، لأن سعدا فلاح وابن فلاح، فكيف يتزوج الفلاح ابنة العز والصولجان. ولكن قد حدث، ورغم أن مصطفى أمين ربيب بيت الأمة، وقد ولد فيه، وتربى فى حضن الزعيم والهانم، كما يطلق الصديق الكاتب الصحفى رشاد كامل، هذا المصطلح عليهما فى كتاب له بهذا العنوان، رغم أنه يسرد كثيرا من الحوادث التى شاهدها، والحوادث التى ترددت فى طفولته، والأخبار التى تواترت عن زواج سعد بصفية، فإنه يترك الخيال -كعادته للحكايات-، فيقول بأن التقاليد كانت تقضى بأن العريس فى ليلة الدخلة يصعد إلى عروسه فى عربة الزفاف، ويحاول أن يأخذ بيدها، فترفض وتتمنع فى المرة الأولى، ثم يحاول مرة أخرى، فتكرر الرفض والتمنع، ثم يجرب للمرة الثالثة، وعندها تنزل العروس من العربة، وتضع ذراعها فى ذراع زوج المستقبل. ويكتب مصطفى أمين فى مذكراته، أن سعدا لا يتقن مثل هذه التقاليد الأرستقراطية، ولا يعرفها من أساسه، فالتقاليد فى الريف تختلف، وعندما راح سعد ليمسك بيد صفية فى أول الأمر، وراحت هى تطبق العرف والتقاليد، فتتمنع وترفض فى دلع، يقول مصطفى، بأن سعدا تركها وغضب، ولكنها انزعجت، وتركت العربة، ونزلت منها وراحت تجرى خلف سعد لتلحق به وتسترضيه. وخيال مصطفى المفرط صوّر له ولنا حكايات كثيرة من هذا النوع، وعندما راجعت صحف ومجلات ذلك الزمان، وجدت أن كثيرا من تلك الحكايات غير دقيقة، وفى صحيفة «حقوقى» وصف دقيق للفرح، ورصد للحضور، رغم أن مصطفى راح ليصور لنا الفرح، وكأنه تم فى سرية تامة، حتى لا يعرف الناس أن بنت الباشا، تزوجت ذلك الفلاح. وللأسف هناك كثيرون نقلوا أخبار سعد وصفية نقلًا عن مذكرات مصطفى أمين، دون الرجوع إلى حوليات ذلك الزمان، وبالتأكيد أن هناك بعض الأخبار الصحيحة عن الرفيقين سعد وصفية، وقد شاركت صفية سعدا الحياة بكل أحداثها، قبل ثورة 1919 المجيدة، وحملت لواء سعد ومبادئه بعد رحيله، حتى أن رحلت فى يناير 1946، وكان إسماعيل صدقى يرسب لها لكى تكف عن تصريحاتها المناهضة لحكومته، ولكنها كانت تواصل حمل راية سعد حتى آخر نسمة فى حياتها كما كانت تقول. وبعد رحيل سعد، انتبه كثيرون إلى دورها فى دعم الحركة الوطنية، وكذلك مؤازرة الحركة النسائية المصرية، وفى 3 أغسطس سنة 1928 فى صحيفة «البلاغ الأسبوعى» كتبت الشاعرة العراقية الشابة رباب الكاظمى قصيدة عنوانها «تحية أم المصريين»، واستهلتها بقولها: (قرت بمقدمك العيون واستبشر القلب الحزين وتراجع الأمل الذى يصبو إليه الآملون حملت إلينا ساعة ما ليس تحمله السنون تلك البشائر أسمعت فى الحى من لا يسمعون قالوا صفية أقبلت فتنافس المتنافسون ضربوا بوجه الشمس لما شاهدوا الوجه المصون). والقصيدة طويلة، تزيد على مئة بيت من الشعر، تستعرض فيها الشاعرة حياة أم المصريين، ونضالها، وأفكارها، ورغم تلك الأغراض المباشرة، فإن القصيدة تنم عن موهبة كبيرة ومتفجرة، كتبتها الشاعرة الشابة، وهذا ليس غريبا على واحدة من بيت أدب وعلم وثقافة، فوالدها هو الشاعر محسن الكاظمى، والذى عاش فى مصر لفترات طويلة، وآزر فيه نضال المصريين طوال فترة إقامته فيها. ومن المدهش أن تقول كل المراجع، بما فيها «معجم البابطين»، بأن الشاعرة من مواليد 1917، ومن المؤكد أن هذا التاريخ ليس صحيحا، لأنه لو كان كذلك، لكان عمر الشاعرة وقت كتابتها لتلك القصيدة، إحدى عشرة عاما فقط، وهذا من المستحيلات لنضج التجربة، وهناك صورة مصاحبة للقصيدة تقول غير ذلك. ولم يكتف الكاتبون والشعراء ببضع قصائد ومتابعات وأخبار عن السيدة صفية مصطفى باشا فهمى «الشهيرة بصفية زغلول.. أم المصريين»، ولكن هناك المذكرات التى كتبتها السيدة فهيمة ثابت، وعنوان المذكرات «الزعيم الخالد وأم المصريين فى منفى جبل طارق»، وهى مكتوبة منذ عشرينيات القرن الماضى، لكنها نشرت فى الأربعينيات، حسب وصية أم المصريين نفسها، والتى تقول بعدم نشر المذكرات إلا بعد رحيلها الذى كان فى يناير 1946. والسيدة كريمة فهمى، هى كريمة حسين بك ثابت رئيس محكمة أسيوط فى مطالع القرن، وكان أحد المقربين لسعد زغلول، وقد رحل عام 1918، عندما كانت السلطات تمنع إقامة الجنازات، فلم يدر برحيله أحد إلا بالمصادفات. ورغم أن المذكرات تذكر بعض الأحداث الوطنية العظمى، والتى كتب عنها كثيرون، فإن الأهم فى تلك المذكرات أنها تحكى عن تفاصيل وذكريات وأحداث صغيرة، لا يذكرها التاريخ، المشغول بعظائم الأمور، ولا يقترب كثيرا من صغائر الأمور التى تحدد فى كثير من الأحيان توجه وطبيعة الشخصيات التى تتناولها. المذكرات تبدأ منذ أن قررت أم المصريين اختيار فهيمة لتكون رفيقتها، مرورا بلحظات الوداع، ثم ركوب السفينة، والتعرف على ركابها، حتى اللقاء الأول بالزعيم فى منفاه، والحديث عن رفقاء سعد البسطاء وعلى رأسهم الطباخ الخاص وهكذا، إنها مذكرات لا تهتف، ولكنها تكشف وجوها مفرطة فى إنسانيتها.