400 ألف طالب أنهوا دراستهم فى الثانوية العامة وفى انتظار مكاتب التنسيق لتحديد مصائرهم وزارة التعليم العالى قسّمت القطر المصرى إلى أقاليم وألزمت أبناء كل محافظة بدخول كلياتهم فقط التنسيق مأساة كل عام التى تئد أحلام الكثيرين سيخرج الطالب بعد هذه السنوات البائسة من الدراسة العقيمة بلا خبرات ولا معلومات ولا تجارب إنسانية ما يقرب من 400 ألف طالب أنهوا دراستهم فى الثانوية العامة هذا العام يتأهبون الآن لترتيب رغباتهم واختيار مصائرهم بعد المرور بمراحل التنسيق المختلفة. تنوعت كتابات الأصدقاء ونصائحهم بعد ظهور النتائج، لتبيان الفارق بين تحصيل الدرجات، وما ينتظرهم فى الجامعة وفى حياتهم العملية. لكن تفصيلة أخرى تستحق مزيدا من التناول بدأتها وزارة التعليم العالى بشكل محدود قبل سنوات، وزادت صرامتها مؤخرا، فالوزارة قسّمت القطر المصرى إلى أقاليم، وتلزم أبناء كل محافظة داخل كل إقليم بدخول الكليات التى يرغب فيها وتتناسب مع مجموعه الكلى داخل هذه المنطقة فقط، لتأتى هذه الخطوة بعد مأساة التنسيق التى وأدت أحلام كثيرين. يستحق التنسيق نفسه كتابات أخرى منفصلة، فالمسألة فى جامعات العالم ليست بالمجموع الكلى الذى حول الطلاب فى مصر إلى أوعية يحشر فيها المعلم معلومات يفرغونها فى ورقة الامتحان فى انتظار العلامات النهائية -التعبير قاله لنا مدرس اللغة العربية ليلة الامتحان- بل إجراءات تراعى رغبته فى الدراسة فى هذا المجال تحديدا وتقييما شاملا لدوره فى محيطه الاجتماعى ونشاطه التطوعى وسجله الدراسى ورؤيته لما سيفيد به بلده ومجتمعه، ومدى تناسب ما درسه مع الفرع الذى يرغب فى التخصص فيه، وما حصله من مواد حتى يتمكن من مراجعة مناهج أخرى فى مدة إضافية لعلاج قصوره وتأهيله لدراسة ما يرغب فيه. لم يكتف القائمون على ملف التعليم الجامعى فى مصر بهذا التمييز الكارثى، فأقروا هذا التوزيع الجغرافى لإجبار الطلاب على دخول جامعات فى محافظاتهم أو المحافظات الأكثر قربًا رغما عنهم توفيرا للنفقات. قبل أن تقفز إلى استنتاج أن هذا هجوم على الجامعات فى المحافظات ومستواها أنا واحد من خريجى فرع دمياط فى جامعة المنصورة قبل أن تتحول إلى جامعة مستقلة بعد أن كانت قبل كل هذا مجموعة من الكليات المتفرقة بين مدينتى دمياط ودمياط الجديدة. جاءت خطوة إنشاء الجامعات الصغيرة فى محافظات مصر لأسباب مختلفة، أبرزها كونها عامل جذب للسكان فى المدن والتجمعات العمرانية الجديدة، أو لتوفير الوقت والجهد والمال على من يسكنون فى مناطق بعيدة تفصلهم ساعات عن الجامعات الأقرب، وتكلفهم ذلك مبالغ طائلة إن قرروا السكن فى المدن الجامعية أو شقق المغتربين. ناهيك بصعوبة الأمر المضاعف إذا ما تحدثنا عن حال الطالبات الجامعيات القادمات إلى المدن، لكن الدولة فى المقابل قدمت هذه الجامعات مبانى بائسة مع أساتذة جامعيين دون أى إمكانات أخرى. شهدت بعينى خلو كليتى من معامل لأقسام البيولوجى والكيمياء، واضطرار زملائى إلى الحضور فى كلية العلوم فى الأوقات التى لا تتضارب مع أوقات الدراسة هناك. معامل الحاسب الآلى كانت معطلة أو مغلقة أو غير مسموح لنا بدخولها. مكتبة خاوية لا يذهب إليها أحد فى أوقات الأبحاث، والبحث نفسه لم يكن سوى التفاف من الأستاذ على الأمر ليجبرنا على شراء كتابه، لنضع الكوبون المرفق به فى مقدمة البحث، ونسلمه إليه قبل الامتحان بأيام، ليتأكد من أننا دفعنا الإتاوة المطلوبة قبل أن يمنحنا درجات النجاح. لا مناخ طلابيا ولا نشاط اجتماعيا ولا تواصل بين الطلاب، فالكلية منفصلة عن غيرها من الكليات، لتصبح فى أحسن الأحوال مدرسة ثانوية بنين يذهب الطلاب كل مرة أن ذهبوا خوفا من الغياب، وفى انتظار الحصول على شهادة يبدؤون بعدها حياة لا علاقة لها بكل ما درسوه فى كل ما مروا به من مراحل تعليمية. الدولة قررت ك«ولى أمر» متسلط أن تحرم أبناءها حق الاختيار فى أكثر مراحل عمرهم حساسية وخطورة ومفصلية، بدلا من أن تمنحهم فرصة الاستقلال وتسهيلات العيش فى مناخ تحدٍّ وتعلم حقيقى وبيئة مغايرة تجبرهم على ما يوفر لها جنيهات من الإنفاق على المدن الجامعية غير الآدمية. تفعل هذا دون أن تهتم فى المقابل بتطوير الجامعات، لتتناسب مع هذه الخطوة، ولا أن تكون عامل جذب لهم. سيخرج الطالب بعد هذه السنوات البائسة من الدراسة العقيمة بلا خبرات ولا معلومات ولا تجارب إنسانية أو قدرة على البحث والتعلم بنفسه ولا اكتشاف ما يحيط به ليبدأ وهو فى العشرين من عمره -إن لم يكن أهله تدخلوا لتجنيبه هذا الجهل المريع- فى عيش صدمة الوعى على عالم آخر ومعارف أخرى لا تحتويها الكتب الجامعية والمحاضرات المملة أو «شيتات» الامتحانات وملازم المراجعة النهائية وتوقعات ليلة الامتحان.