لماذا سقطت من المشهد ثورة الخامس والعشرين من يناير؟ ثورة 1919 كانت ثورة شعبية بكل معنى الكلمة وجعلت من وجود «الأمة المصرية» حقيقة تاريخية تشكل على الأرض معادلات المستقبل أدركت ثورة 1952 فى وقت مبكر نسبيا ضرورة أن تتحول إلى ثورة مدنية وأن تحافظ على مدنيتها عبد الناصر ورفاقه لم يكونوا يحكمون البلاد بالعقلية العسكرية وحسب لكنهم كانوا متمرسين فى الحياة السياسية والمدنية درس آخر تدق به أجراس التاريخ وهو أنه لا ثورة تولد هكذا فى الفراغ من يريدون عسكرة الحياة المدنية كما يسعون لعسكرة الثورة إنما يقطعون فرع الشجرة الذى يجلسون على أطرافه كما لو كانت تعزف لحنًا واحدًا، ظاهره توارد الخواطر، خرجت علينا بعض صحافة الخميس الماضى الموافق الثالث والعشرين من يوليو بتعبير واحد يزين عناوينها الرئيسية، أعنى وصف هذه الصحف لثورة 23 يوليو بأنها «الثورة الأم»، مما يستحق الانتباه والتأمل فى مغزى خروج هذا التعبير إلينا بهذا الإلحاح الإعلامى وفى أكثر من صحيفة يومية فى آن واحد! باعتبارها «الثورة الأم»، كما يريد للثلاثين من يونيو أن تكون الثورة الابنة التى تحمل ملامح أمها فلا يطعن فى نسبها أحد، مع تجاهل متعمد لا تخطئه العين لثورة الخامس والعشرين من يناير، كأنها ثورة مشكوك فى نسبها، ولا حق لها فى أى ميراث تاريخى رغم صور عبد الناصر التى رفعها ثوار يناير مع شعارات العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية أيام الثورة، حتى إن بعض حوارات الثالث والعشرين من يوليو الصحفية وصفت ثورة يناير بأنها كانت «مؤامرة خارجية أمريكية»! سؤال لا بد أن يطرأ على ذهن أى قارئ جاد لهذا المشهد الاحتفائى بالثورتين الأم والابنة، وهو لماذا سقطت من المشهد ثورة الخامس والعشرين من يناير؟ وربما كان السؤال الأهم هو لماذا تعمد الإعلام أن يسقط من الذاكرة تمامًا الثورة الجد، أعنى ثورة 1919 التى كانت ثورة شعبية بكل معنى الكلمة، وجعلت من وجود «الأمة المصرية» حقيقة تاريخية تشكل على الأرض معادلات المستقبل المصرى! قد يقول قائل إن ثورة 1919 كانت ثورة ضد الإنجليز، وكذلك كانت الثورة الأمريكية، لكن ثورة 1919 كانت أيضًا ثورة ضد استبداد القصر، وانتهت بتتويج سعد زغلول زعيمًا شعبيا يوازن سلطة الملك، ومنحت لمصر وضعا دستوريًّا ما كان ليتحقق بغيرها، وتداعت آثار الثورة حتى صارت مصر دولة مستقلة وإن بقيت أرضها محتلة بالجيش الإنجليزى لفترة انسحب بعدها للقناة بعد توقيع معاهدة 1936.. جمال عبد الناصر نفسه وصحبه من الضباط الأحرار ما كانوا ليلتحقوا بالكلية الحربية لولا هذه المعاهدة التى كانت واحدة من أهم نتائج ثورة 1919! بيد أن العمل على إسقاط الاعتبار عن ثورتى 1919 و25 يناير، حتى وصل الأمر بالبعض إلى عدم الاعتراف بهما كثورتين تنطبق عليهما المعايير العلمية لتعريف الثورات، إنما يعود إلى أنهما كانتا ثورتين مدنيتين لا تعولان على دور للجيش فى الحياة السياسية المصرية، بعكس ثورتى 23 يوليو و30 يونيو اللتين انتهيتا بدور متنام للقوات المسلحة فى صياغة ملامح المستقبل السياسى للبلاد!! لم نستفد من تجارب الماضى القريب حين رأينا إلى أين أوصلنا تدخل المؤسسة العسكرية فى الشأن المدنى فكانت واقعة 1967، فى حين حقق عبد الناصر انتصاراته الحقيقية فى معارك مدنية خاضها باعتباره رئيسًا مدنيا يستعين بمدنيين فى إدارة معظم الشأن المدنى، حتى وإن كان لبعض من استعان بهم عبد الناصر من المدنيين تاريخ عسكرى، إلا أنه قد استعان بهم لكفاءتهم لا لعسكريتهم، وكانوا يتلقون أوامرهم منه لا من القيادة العامة للجيش، فحققوا له هذه الإنجازات التى ما زلنا نذكره ونذكر 23 يوليو بها حتى اليوم! ففى وقت مبكر نسبيا أدركت ثورة 1952 ضرورة أن تتحول إلى ثورة مدنية وأن تحافظ على مدنيتها، ففصل عبد الناصر تماما بين إدارتها وبين إدارة الجيش التى عهد بها لعبد الحكيم عامر، ليتفرغ هو لشؤون الدولة المدنية، ولم يحدث أن تدخل عبد الناصر بعد ذلك فى الشأن العسكرى بشكل مباشر مثلما نرى الآن، ولا طالب المؤسسة العسكرية بأن تقوم بالمشاريع العامة كالسد العالى الذى قامت به شركات وطنية مدنية؛ بل وحتى المسؤول عن المشروع المهندس صدقى سليمان، وإن كان قد خدم فى سلاح المهندسين فى شبابه فإنه كان قد تلقى تعليمًا مدنيا قبل التحاقه بالقوات المسلحة، ولم يتم اختياره لوزارة السد العالى إلا بعد أن كان قد غادر الحياة العسكرية إلى الحياة المدنية قبلها بسنوات! عبد الناصر ومن معه إذن لم يكونوا مجرد ضباط فى الجيش يحكمون البلاد بالعقلية العسكرية، وإنما كانوا متمرسين فى الحياة السياسية والمدنية، ولم يحدث أن طفا أحدهم على سطح الحياة السياسية المصرية بغير استغراق فى الأفكار السياسية التى ملأت الفضاء العام بعد ثورة 1919، فاتصلوا بكل ألوان الطيف السياسى، من «الإخوان» فى أقصى اليمين إلى حركة «حدتو» فى أقصى اليسار؛ فهل هذه حالة يقاس عليها عندما نتحدث بكل استخفاف عن أن ما يمارسه الجيش اليوم من تدخل فى الشأن المدنى إن هو إلا استدعاء لنموذج عبد الناصر قائد ثورة 23 يوليو «أُم كل الثورات»؟! كل ما سبق لا ينفى بطبيعة الحال أهمية الجيش فى بناء الدولة دونما افتئات على الحياة المدنية التى هى عصب وجود واستقرار الدولة، ولا هو ينفى الأخطاء الكارثية التى وقع فيها عبد الناصر ونظام يوليو، ولا هو يرفع عن عبد الناصر مسؤوليته عن تدخل عبد الحكيم عامر فى الحياة المدنية، ولا مسؤوليته عن عصر السادات، ولا مسؤولية السادات عن عصر مبارك؛ لكنه يقرع فقط نواقيس الخطر لتنبيه العقل المصرى لخطورة الاستنساخ المجانى لنموذج الضباط الأحرار الذين انخرطوا فى العمل السياسى قبل 1952 وكأنه نموذج يعبر عن جيش 2011 أو جيش 2013 أو جيش 2015!! فلا الظرف التاريخى هو الظرف التاريخى، ولا حركة الجيش فى 30 يونيو هى حركة الجيش فى 23 يوليو، ولا السيسى هو عبد الناصر، ولا عبد الناصر إذا ما بعث اليوم حيًّا كان سيرى هذا الزمان زمانه! شىء واحد لا بد أن لا يغادر العقل المصرى وهو أن الثورة، حتى وإن شارك فيها العسكريون كالثورة الأمريكية، لا يمكنها أن تنجح لأن الجيش قام بها أو شارك فيها، وإنما هى تنجح فقط حين تستقيم بها الحياة المدنية، وحين توفر للناس لقمة العيش، وحين تشعرهم بكرامتهم الإنسانية، وحين تقيم العدل بينهم، وتنير أمامهم خرائط الطريق نحو المستقبل، فلا يستيقظون على غد أكثر إظلامًا من أمسه، ولا على وعود تتبخر مع شمس كل يوم جديد! درس آخر تدق به أجراس التاريخ وهو أنه لا ثورة تولد هكذا فى الفراغ، فلا 23 يوليو كان يمكن أن تتحول لثورة لو لم تكن قد لحقت بثورة 1919، ولا 25 يناير كان يمكن أن تحدث بغير الوعى السياسى والاجتماعى الذى تركته وراءها 23 يوليو فى التربة المصرية، ولا 30 يونيو كان يمكن أن تولد لولا ثورة 25 يناير، مع كل نجاحات هذه الثورات الأربع، ومع الإقرار بإخفاقاتها! قد يزعج أنصار الدور المتعاظم للجيش فى الحياة المدنية، كما قد يزعج أنصار شرعنة الثورة إن هى كانت عسكرية وشيطنتها إن هى كانت مدنية، أن ننهى هذا المقال بالدرس الثالث للتاريخ وهو أن من يريدون عسكرة الحياة المدنية كما يسعون لعسكرة الثورة إنما يقطعون فرع الشجرة الذى يجلسون على أطرافه؛ فجذع شجرة الدولة الحديثة كما جذع شجرة الثورة مدنيان بالضرورة، ولا يمكن لهما أن يكونا غير ذلك؛ فحذار من غواية عسكرة الدولة وعسكرة الثورة ففيها سقوطكم من أعلى الشجرة، وسقوطكم سيؤلمنا كثيرًا لأن أجمل ما فى فروع الشجرة أطرافها!!