المشهد الذي بات راسخًا الآن في مصر بعد ثورة 25 يناير 2011 أن ثورة 23 يوليو ولدت دولة عسكرية بحتة، فأصبح شعار "يسقط حكم العسكر" منسحبًا علي الستين عاما من يوليو 1952 إلي يناير 2011، هذا الحكم يستدعي علي الفور من الذاكرة الراحل العظيم الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي علمنا ألا نأخذ الأمور بظواهرها، أن نغوص في أعماق التاريخ، أن نفكك ونحلل ونركب كل شيء حتي نصل إلي عمق أعماقه. خرج الشعب المصري من ثورة 1919 نصف منتصر ، فقد أعلن استقلال مصر المنقوص بإعلان 28 فبراير 1922، وبدأ المصريون يحاربون النفوذ الاقتصادي الاستعماري بإقامة صناعاتهم وشركاتهم وبنوكهم، لكن كل هذا اصطدم بهزيمة 1948، التي أدت إلي ثورة يوليو 1952م، عبرت هذه الثورة عن مكون من طبقة من ضباط الجيش المصري تميزوا بوعيهم السياسي وثقافة بعضهم الرفيعة، فكانت رغبتهم في الانقلاب علي القصر وكبار رجال ملاك الأراضي والرأسمالية المختلطة بين المصريين والاجانب، هذا الانقلاب تطور بمرور الوقت ليقبض هؤلاء علي السلطة بسهولة لم يكن احد يتوقعها استسلم الملك وانهارت الأحزاب وتقلد الأمر في النهاية ضابط شاب 35 عاما هو جمال عبد الناصر، ويصبح التساؤل: هل كان العسكر من رفاقه هم من يستطيعون إدارة الدولة في تلك المرحلة الحرجة من تاريخ مصر؟ في حقيقة الأمر، كان الجيش المصري وما يزال أحد أبرز السبل للصعود الطبقي خاصة من قبل الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وزاد هذا الأمر في السنوات الأخيرة مع انتشار البطالة. وفي جيل عبد الناصر كان الجيش هو حلم كل شاب مصري عكس الحالة التي جسدها خالد فهمي في كتابه "كل رجال الباشا" حينما كان يهرب المصريين من الخدمة العسكرية. فهل كانت مصر كلها للعسكر بعد ثورة 23 يوليو 1952، في حقيقة الامر لا، فمع انهيار الأحزاب، ارتبط بعض رجال السياسة بثورة يوليو فتولي فتحي رضوان من الحزب الوطني وزارة الإرشاد القومي، وسعي عبد الناصر للاستعانة بالشباب فكان تعيين الدكتور مصطفي خليل الحاصل حديثا آنذاك علي الدكتوراه في الاتصالات وزيرًا للمواصلات، ونري علي جانب آخر أبناء طبقة كبار الملاك يندمجون مع نظام يوليو كسيد مرعي الذي أصبح عراب الإصلاح الزراعي، أو عائلة منصور من الرأسمالية المصرية أو غيرهم، هكذا تولدت توليفة مصرية متناسقة مع نظام يوليو. لم ينعزل جمال عبد الناصر ونظامه عن المجتمع المصري بل صار هناك ما يشبه العقد الاجتماعي بين العسكريين وأساتذة الجامعات والقضاة ورجال الشرطة، واعتبرت مصر بمثابة تورتة كبيرة تقسم بين هؤلاء، نري هذا بصورة رئيسية في مناصب المحافظين التي ظلت إلي نهاية حكم مبارك توزع بين هذه القطاعات الأربعة، كأن هؤلاء هم سدنة الحكم في مصر. وفي ظل هذا نري أجيالا من العسكريين ففي الخمسينيات وأوائل الستينيات نري المحافظين من الصفين الأول والثاني من ثوار يوليو محافظين ونجح بعضهم إلي درجة ينسي البعض في المحافظات التي تولوها أنهم عسكر، علي غرار حالة جمال حماد في كفر الشيخ، وحالة وجيه أباظة الذي تولي محافظة البحيرة، فظل لسنوات في مخيلة سكان مدينة دمنهور المحافظ المثالي، الذي كاد أن يجعل مشروع الترام كوسيلة مواصلات يحلمون بها إلي اليوم واقعًا، قبل أن ينقل ليعمل محافظًا للقاهرة. أما في السبعينيات فكانت مناصب المحافظين لقادة حرب أكتوبر هي مكافأة الانتصار فتولي الفريق سعد مأمون محافظة القاهرة ويوسف عفيفي البحر الأحمر ويوسف صبري أبو طالب شمال سيناء، وأصبح هناك عرف في مصر أن محافظي المحافظات الحدودية عادة ما يكونون من العسكريين. لكن مع حسني مبارك أصبح منصب المحافظ مكافأة للواءات الجيش، حقق بعضهم نجاحات واخفق البعض، لكن في النهاية ظل هؤلاء يشغلون مناصب متفاوتة في الجهاز الإداري للدولة خاصة في الاجهزة الرقابية، وهو ما يطرح أحيانًا تساؤلات حول أداء هذه الأجهزة، الذي يخضع لفكرة الانضباط بصورة أساسية. اخترق العسكريون الدولة المصرية فباتوا في مواقع عديدة بدءًا من رؤساء شركات قطاع عام إلي البنوك إلي الآثار والثقافة، لكن هناك منهم من اندمج إلي درجة يصعب معها القول بأن هذا أو ذاك ذو خلفية عسكرية وأبرز حالتين في هذا السياق ثروت عكاشة ويوسف السباعي وكلاهما مبدعان، لهما العديد من الإبداعات، ففي عزاء ثروت عكاشة الذي توفي هذا العام غلب علي العزاء الوسط الثقافي والفكري، فكونه من ضباط ثورة يوليو جاء ذلك في سياق السرد التاريخي لسيرته، أما الجميع فقد تذكره في سياق الانجاز الثقافي الأكبر الذي صار ملاصقًا لشخصية ثروت عكاشة. كانت دولة يوليو دولة تكنوقراط في الغالب، وفي قليل من الأحيان حملت وزراء سياسيين ففي حالة بدر الدين أبو غازي انتقل من وكيل لوزارة المالية إلي وزارة الثفافة، لكونه أحد أبرز المثقفين المصريين في عصره ولديه خبرات إدارية، لتبرز في السبعينيات ظاهرة الساسة في مناصب وزارية علي غرار حالات مصطفي خليل المهندس الذي تولي منصبي رئاسة الوزراء والخارجية معًا، وفكري مكرم عبيد الذي تولي منصب نائب رئيس مجلس الوزراء فرئيس الوزراء، لم نر في عهد عبد الناصر أو في عهد السادات أو في عهد حسني مبارك وزارة مصرية بالكامل من العسكر، نظرًا لسيطرة فكرة تخصص الوزير علي المناصب الإدارية، فوزير البترول مهندس بترول، ووزير الاتصالات مهندس اتصالات، فترسخت قاعدة التكنوقراط بالدولة، هذا ما جعلها تميل ناحية الأداء التقليدي وفقر الخيال والبعد عن الرؤية الجماعية لأداء الوزارة فالفريق الوزاري السياسي يمتلك من الخيال ما لا يمتلكه التكنوقراط. فضلا عن افتقاد مصر لطبقة من السياسيين لديهم إحاطة بماهية الدولة وإدارتها، هنا تكمن خطورة المرحلة القادمة في مصر.