في مثل هذا اليوم من شهر مارس عام 1960 وقف وزير ثقافة مصر العلامة الكبير الدكتور ثروت عكاشة في القاعة الكبري لليونسكو بباريس يطرح مشروعا ضخما لانقاذ معابد النوبة في مصر, ونجح في أن يحصل علي مساهمة دول العالم في هذا العمل الحضاري العملاق قبل أن تغمر مياه بحيرة السد العالي بعض أهم الآثار في العالم. كانت مصر في ذلك العصر تقود حركة التحرر والاستقلال في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية, وكانت الكثير من حركات التحرير تحصل علي شرعيتها من دعم مصر الثورة لها, لذلك فقد كانت المواجهة بين مصر وقوي الاستعمار القديم علي أشدها, ومع ذلك اختار الدكتور ثروت عكاشة أن يخوض هذه المعركة ويقبل التحدي وأن يضع الدول الغربية أمام مسئوليتها الحضارية. ولم يكن الدكتور ثروت عكاشة في ذلك يمثل تناقضا بل كان يمثل وجهي ثورة مصر: الوجه التحرري والوجه الحضاري, فالدكتور ثروت عكاشة هو عضو تنظيم الضباط الأحرار الذي قام بالثورة علي الملكية الفاسدة وأقام الجمهورية الحديثة, وهو أيضا الذي أطلق حركة النهضة الثقافية والفكرية والفنية التي عرفتها مصر بعد الثورة. وقد لايعرف البعض أن ثورة 1952 كان مخططا لها أن تنطلق في شهر أغسطس من ذلك العام حين تكون الحكومة في إجازتها الصيفية ومعظم أعضائها قد سافروا يقضون الصيف في ربوع أوروبا كما جرت العادة. وقد روي لي الدكتور ثروت عكاشة أنه كثيرا ما كان يجمع بعض المقربين من أصدقائه الضباط في بيته ليستمعوا إلي المؤلفات الموسيقية العالمية, وفي إحدي هذه الأمسيات اختار أن يسمعهم مقطوعة شهر زاد للمؤلف الروسي ريمسكي كورساكوف والتي كان جمال عبد الناصر يهواها, وأخذ ثروت عكاشة يتحدث لزملائه عن تلك المتتالية الشهيرة وبنائها الموسيقي ثم جلس الأصدقاء يستمعون إليها في صمت, وما إن انتهت المقطوعة حتي قال عبدالناصر لرفاقه الحاضرين الذين كانوا يمثلون الدائرة الضيقة من التنظيم: سنعجل بموعد الحركة من أغسطس إلي يوليو. وشرح لي الدكتور ثروت عكاشة أن قرار جمال عبد الناصر كان يستند إلي عنصرين أولهما أن الحديث أخذ يزداد في ذلك الوقت عن وجود تنظيم سري داخل الجيش يعد لعمل انقلاب وشيك وكان رأي عبدالناصر أنه كلما تأخر الموعد سيزداد احتمال كشف التنظيم. أما الاعتبار الثاني فكان أن حريق القاهرة في يناير من ذلك العام وما تلاه من اضطرابات سياسية جعل مصر تشهد ست وزارات في الأشهر التالية, وذلك يعني أن الظرف السياسي قد أصبح مواتيا لحركة الجيش ولم يعد الأمر يتطلب الانتظار حتي موعد الإجازة السنوية للحكومة في شهر أغسطس. وإذا كانت ثورة يوليو 1952 قد استلهمت علي الأقل بالنسبة لموعدها من موسيقي شهر زاد, فإن جمال عبد الناصر نفسه قد كشف في أكثر من مناسبة أن رائعة توفيق الحكيم الروائية عودة الروح كانت العمل الأدبي الذي ألهمه القيام بالثورة, لذلك لم يكن غريبا أن يكون من بين الضباط الأحرار ذلك المثقف الموسوعي الأكبر ثروت عكاشة الذي أثري الحياة الثقافية المصرية, كما لم يفعل إلا القليلون من المسئولين قبله أو بعده. ويتفرد الدكتور ثروت عكاشة بين عمالقة الثقافة في مصر في أنه أقام البنية التحتية للعمل الثقافي في العصر الحديث, فأينما وليت وجهك وجدت أحد الصروح الثقافية التي أقامها عميد وزراء ثقافة مصر الدكتور ثروت عكاشة, من معهد السينما الذي خرج أجيالا من السينمائيين الذين صنعوا واحدة من أكبر الصناعات المصرية في الستينيات الماضية وهي صناعة السينما التي وضعت مصر في مصاف أكبر مراكز الانتاج السينمائي في العالم, إلي أوركسترا القاهرة السيمفوني الذي كان يقدم للشعب روائع الموسيقي العالمية أسبوعيا لقاء تذكرة دخول أذكر أنني كنت أدفع فيها وأنا طالب خمسة قروش, إلي جهاز الثقافة الجماهيرية الذي نقل الثقافة الرفيعة إلي القري والنجوع في الريف المصري من خلال بيوت وقصور الثقافة التي أقامها في طول البلاد وعرضها إلي أكاديمية الفنون وقاعة سيد درويش الموسيقية وغيرها من الصروح الشامخة التي بدونها لم يكن للعمل الثقافي أن ينهض وللحركة الفنية والأدبية والفكرية أن تزدهر. وحين دارت الأيام ورحل عبد الناصر وتولي أنور السادات وانحصرت حركة التحرر الوطني وتراجعت مكانة الثقافة في مصر لم يتوقف إنجاز الدكتور ثروت عكاشة بل استمر بمؤلفاته التي كانت تجمعها قيمتها الفكرية الكبيرة التي جعلتها مراجع في مجالها. وتتنوع مؤلفات الدكتور ثروت عكاشة مابين سلسلة تاريخ الفنون العالمية والتي أصدر فيها مجلدات متعددة عن فن عصر النهضة الأوروبي وعن الفن الهندي والفن الفارسي, وترجمته لبعض أمهات الكتب والتي مازلت أذكر منها كتاب برنارد شو الشهير عن الموسيقار الألماني ريتشارد فاجنر والذي أصدره الدكتور ثروت بعنوان مولع بفاجنر وكتاب آخر بعنوان المسرح المصري القديم وهو كتاب شيق يثبت أن فن المسرح نشأ في مصر القديمة وليس في أثينا حسب الاعتقاد السائد. لكن أحب كتب الدكتور ثروت عكاشة إلي قلبي ستظل مذكراته الشخصية في الثقافة والسياسة والتي أعتز بأن قدمها لي بإهداء يقول إلي ابني الحبيب.. لقد وضع الدكتور ثروت في كتابه هذا وهو في جزءين خلاصة عمله في الحياة العامة مابين الثقافة والسياسة حيث جمع في شخصه بين الاثنين لأنه لم يكن يري بينهما انفصالا, فالسياسة التي تنفصل عن الثقافة كما قال لي ذات مرة هي سياسة بلا قلب, والثقافة التي تنفصل عن السياسة, أي عن الجماهير العريضة, هي ثقافة بلا ضمير.. رحم الله ثروت عكاشة وعوضنا عن عصره العظيم. نقلاً عن الأهرام