عاد ابنى من جامعته البعيدة بعد أن درس مقررا فى تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى، كان غاضبًا منى على وجه الخصوص، قال: لقد كذبت على حين قلت إن مصر قد انتصرت على إسرائيل فى حرب أكتوبر 73، بينما كل الدراسات والمراجع وحتى محاضرات الأستاذ تؤكد أن إسرائيل هى المنتصرة، كان حزينا ومصدوما كأنه هو الذى هزم شخصيا، لم أملك فى مواجهة غضبه إلا القول: إنه الإهمال المصرى العقيم، كانت أكتوبر واحدة من أفضل المعارك فى تاريخنا، خطة الحرب كانت كاملة، مليئة بالابتكارات، فكرة عظيمة لاختراق سد بارليف الترابى، وابتكار جديد لمد الجسور فوق مياه القناة، طريقة ناجعة يقوم بها المشاة لتدمير الدبابات الإسرائيلية، وكانت إسرائيل مسترخية وأمريكا غائبة والإرادة المصرية حاضرة، وعندما اكتسى رمل سيناء الباهت الصفرة بالبارود والدم جاءت لحظة الإهمال المميتة، اللحظة التى تنتاب العقل المصرى وهو يقوم بعمل مهما كان عظيما، حدثت الثغرة بين الجيش الثانى والثالث وتدفق جنود إسرائيل للمرة الأولى إلى الضفة الغربية للقناة، الضفة الإفريقية كما أطلق عليها جنودها، ودمرت دباباتهم قواعد الصواريخ فأصبحت السماء المصرية عارية، وحاصروا الجيش الثانى المتمركز فى سيناء، لم تنتصر إسرائيل تماما، لكنه كان نصرا كافيا، ولم ننهزم نحن كلية، لكن لم نستطع فرض إرادتنا، وكنا السبب فى هزيمة سوريا وضياع الجولان مرة أخرى، هذا الإهمال فى قيادة المعركة غيّر وجه التاريخ وكبلنا فى ما بعد باتفاقية «كامب ديفيد» وتسبب فى حالة متواصلة من التدهور السياسى العربى، جعل إسرائيل تفرض علينا كلمتها وتستنزف ثرواتنا، وتشرع فى إبادة الشعب الفلسطينى. هذه اللحظة من الإهمال البشع لم تغادر ذاكرة جيلى، لم نعش فقط فى كابوسها، لكننا أدمنا الإهمال، عشش فى حياتنا كالفطريات السامة، ودفعنا جميعا للعيش على حافة الخطر، ولم يكن غريبا تستدعى الذاكرة هذه الواقعة عندما سمعت خبر سقوط المنطاد من سماء الأقصر، واحتراق 19 سائحا أجنبيا بداخله، لم يكن غريبا أيضا أن ينجو قائد المنطاد، مثلما نجا قائد العبارة تاركا أكثر من ألف غريق، وسائق الأوتوبيس الذى سقط فى النيل وسائق القطار الذى احترق، كلهم ينجون ويتركون ضحاياهم بعد أن كانوا قادوهم إلى فخ الموت، وفى الوقت الذى صدع فيه العاملون فى السياحة رؤوسنا عن وقف الحال بسبب الثورة ومخاوف السياح من الحالة الأمنية المضطربة، يقومون هم بقتلهم بامتياز، فلم نعد نسمع من أخبار السياحة إلا انقلاب الحافلات وموت السياح ونقل المصابين إلى مستشفيات متدنية الخدمة، ولا أدرى لماذا تحرص شركات السياحة على استخدام سائقين قليلى الكفاءة، يقودون أحيانا وهم تحت تأثير المخدرات، ولا يستطيعون التصرف أمام أى عقبة يمكن أن تصادفهم على الطريق، كم سائحًا قتل وهم مازالوا يصيحون أنهم يريدون سواحًا، ربما لطلب المزيد من الضحايا، لقد لوث الإهمال هذه المهنة، وجعل زيارة مصر نوعًا من المغامرة الخطرة، كما قال لى مواطن كندى، فنحن نتركهم فريسة لاستغلال أصحاب الحيوانات عند الهرم، وللمرشدين الجهلة وسط المعابد وفريسة لسائقى التاكسى، ولأعراب سيناء الذين يقومون باختطافهم، نحن نملك ثلث آثار العالم كما يقولون، لكنها كم مهمل، مهدد بالانهيار فى غضون سنوات قليلة، هذا إذا لم ينفذ المتشددون من التيار الدينى تهديداتهم بهدمها، ولا أعتقد أن السلطة بعقليتها المنغلقة يمكن أن تحمى هذه الآثار، فهى لا تدرك أهميتها ولا تعرف أن ما صنعته أيدى الأجداد فى الماضى غير قابل للتكرار. ولا يتوقف الإهمال المصرى المريع عند هذه الصناعة المهددة بالتوقف، فنحن نقضى بأيدينا على أسباب وجودنا، وإذا كنا نخشى من الجراد القادم فى الصحراء فنحن الجراد، قضينا على الأرض الزراعية التى كنا نقتات عليها وأصبحنا شعبا عاجزا يقف دائما على حافة المجاعة ويستجدى طعامه من خارج حدوده، وحتى شريان النيل الذى نحن هبته نقضى عليه يوميا، فنلوثه بالمخلفات من كل نوع، ونوجه لصفاء مياهه أبشع إهانة عندما تقوم مجموعات من البلطجية فى بنى سويف بردم المجرى للحصول على المزيد من الأرض، رغم أننا نعيش على أقل 7.7% من أرض مصر، وقد وصل الضعف والإهمال بأجهزة الدولة عدم استطاعتها حماية مصدر الحياة لمصر من بضعة بلطجية. والنار هى الطاعون الذى ينشر فى مصر الآن، الوليد الشرعى للإهمال، وفى هذا العام فقط أكلت النيران عشرات المصانع والمخازن المليئة بالبضائع، وقضت على أسواق بأكملها كما حدث فى مرسى مطروح، وعلى أحياء مثلما حدث فى حارة اليهود، وهى العدو اللدود للتاريخ المصرى، فقد التهمت ألسنتها عشرات المبانى الأثرية النادرة، بدءا من الأوبرا وانتهاء بالمسافر خانة ومجلس الشورى، وما تحول إلى رماد لا يبعث من جديد، وإذا كانت أجهزة الدولة بذاتها مهملة، فشيمة الشعب هى الرقص على إيقاعات هذا الإهمال، وقمة رأسها هو السيد رئيس الجمهورية الذى يهمل الناس ويتعالى على مطالبهم، ويضرب بالصدق والشفافية عرض الحائط، ففى الحديث الأخير الذى أجراه مؤخرا مع المذيع عمرو الليثى، تأخر موعد إذاعته 5 ساعات كاملة، وظلت التليفزيونات تنوه عنه، وتعيد تكرار الأغانى الوطنية دون مبرر، لم يخرج أحد على الناس ليوضح أسباب التأخير، أو يحدد موعدا دقيقا، أو حتى يؤجله لليوم التالى، وقد تبين فى ما بعد أن كل ما فيه كان يستحق التأجيل، إهمال عادى وهين رغم صدوره من مؤسسة الرئاسة التى كنا نأمل أن تكون أقل إهمالا، الإهمال الحقيقى كان فى محتوى الحوار ذاته، فى إجابات الرئيس عن الأسئلة المثارة التى ينتظرها الساهرون من الناس، عشرات القضايا طرحها المذيع عليه، من يحكم مصر، القصر أم المقطم؟ ما العلاقة مع الجيش، توتر أم تبعية؟ ما الموقف من المعارضة، عداء أم نية خفية للحوار؟ تجاوزات الشرطة وسحل المواطنين، تحقيق ومساءلة أم غض البصر؟ الشارع الغاضب، الدستور غير المرضى عنه، الحكومة العاجزة، الأزمة الاقتصادية الخانقة، نقص السولار، رغيف الخبز غير الآدمى، عشرات القضايا التى تمس أمن الناس وتثير مخاوفهم، تعامل الرئيس مع كل هذه القضايا بإهمال بالغ، دار حولها دون أن يدخل فى تفاصيلها، قدم إجابات عامة عن أسئلة بالغة التحديد، كلها خارج الموضوع والسياق وخارج أى منطق، إهمال متعمد من الرئيس لكل الذين يحكمهم، ونجاح صاعق فى البقاء لأكثر من الساعة وهو يتفوه بأشياء كثيرة دون أن يقول شيئا، إهمال آخر أصاب ذهن الرئاسة بعد أن تجلى واضحًا فى أفعالها، حلقة أخرى تضاف سلسلة الإهمال فى بقية المجالات، لقد كنت فى زيارة خليجية لبضعة أيام، وشاهدت انعكاس هذا الإهمال المصرى، فالعمالة الآسيوية الماهرة والملتزمة تزيحهم من كل المجالات، حتى فى مجالات التعليم الجامعى، ولم يعد عائق اللغة يلعب فى مصلحتنا، لأن الإنجليزية أصبحت وسيلة التفاهم فى كل المجالات، ولم يعد اللسان حجة نرتكن إليها، المهم هو المهارة فى العمل، والإهمال المصرى جريمة يجب العقاب عليها القانون، فهو لا يتسبب فى الخسارة الاقتصادية فقط، لكنه يحول وجه التاريخ المصرى إلى الأسوأ.