بات جليا أن الرهان على جذب الاستثمارات الخارجية لتكون قاطرة للتنمية فى مصر، لن يكون واعدا بقدر الجهد الدبلوماسى الذى بذلته الكثير من مؤسسات الدولة وعلى رأسها مؤسسة الرئاسة، أو بقدر الفرص الاستثمارية التى يمكن أن تتيحها مشاريع تطوير البنية الأساسية وتحديثها المتسارعة حاليا فى محتلف مناطق الدولة. ويمكن فهم هذا الدور المحدود نسبيا المتوقع للاستثمارات الخارجية، من جهة، فى ضوء ما تجلى من كونها أحد أدوات الضغوط التى تمارسها أطراف عديدة سواء من داخل الإقليم أو خارجه، لاحتواء أى دور مستقل وفاعل للدولة المصرية يحاول، على أقل تقدير، لجم عملية تفتيت المنطقة الجارية بشكل متسارع وعنيف. كما يمكن فهمه من جهة ثانية فى ضوء القيود التى قد تفرضها تداعيات الحرب الممتدة التى صار حتما على مصر أن تخوضها فى مواجهة الإرهاب وعوامله المؤسسة من ثقافة تغذى التطرف ومن عمالة البعض لمصلحة أطراف ومؤامرات خارجية معادية، وقبل كل ذلك من هشاشة دور الدولة. ما تحتاجه مصر فى مواجهة هذه التحديات والتهديدات المرتبطة بالرهان على الاستثمارات الخارجية هو تبنى نموذج للتنمية المستقلة، لا ينفصل عن الاقتصاد العالمى وآلياته، لكنه يعلى فى المقام الأول من مصلحة القطاعات الواسعة من الشعب المصرى، وتعزيز فرصها وقدرتها على إشباع احتياجاتها. ويفترض ذلك أن تمتلك الدولة نظاما اقتصاديا عادلا من حيث توزيع فرص التنمية وعوائدها بداية، وبما يضمن له بالتالى القدرة على تعبئة موارده المحلية بشكل كفء وفاعل تتيح له ألا يتعرض للشلل إذا تعارضت مصلحة الدولة ومصلحة مواطنيها مع مصالح مراكز الاستثمارات الخارجية إقليمية كانت أم عالمية. وفضلا عما سبق، فإنه حتى فى حال تدفق الاستثمارات الخارجية بما يتيح تسريع معدلات النمو الاقتصادى مثلما كان عليه الحال خلال العقد الأخير من عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك، فإن استمرار غياب بناء اقتصادى واجتماعى يضمن عدالة توزيع عوائد النمو والتنمية، ويضمن عدالة إتاحة فرص المشاركة فيها لكافة المواطنين، يهدد بأن تصبح هذه الاستثمارات الخارجية أحد العوامل الدافعة لإعادة إنتاج نموذج النمو بالتبعية الذى يكرس هيمنة أقلية احتكارية متحالفة مع المراكز الرأسمالية العالمية ويعمل على إفساد السلطة وعزلها فى دائرة خدمة مصالح هذا التحالف الاحتكارى. وبالتالى، فإن أحد أهم التحديات التى يواجهها النظام الحالى، وأحد أهم معايير الحكم على مدى استجابته للحاجة الثورية الحائرة والمتوثبة بين قطاعات واسعة من الشعب المصرى منذ نحو عقد كامل وحتى اللحظة إنما يتمثل فى مدى قدرته على إعادة بناء هياكل التنمية والإنتاج والتوزيع فى مصر بما يتوائم من جهة، مع قيم العدالة، وتحرير الإنسان المصرى من كل مكنات الخضوع والقهر، وبما يتوائم من جهة ثانية مع ركائز فاعلية الأداء الاقتصادى وكفاءته وفقا لما أجلته تجارب التنمية العالمية طوال ما يزيد على قرن كامل. وفى ظل المعطيات الحالية لتوزيع المقدرات الاقتصادية فى المجتمع المصرى، ومن دون خطة حقيقية وعاجلة لإصلاح عوار هذا الواقع الاقتصادى، يرجح أن يكون المستفيد الأول من مشاريع البنية الأساسية وما تتيحه من فرص استمارية، هو تلك المجموعات المحدودة من القوى الاحتكارية التى تطورت على مدى أربعة عقود لتصبح بقدراتها المالية الأقدر على اقتناص الفرص الاستثمارية، وعلى التأثير فى دوائر صنع القرار الاقتصادى والسياسى. وإذا ما أعادت هذه الفئات إنتاج النمط الاحتكارى ذاته فى إطار أى مشروع تنموى جديد يتبناه نظام ما بعد ثورة 30 يونيو 2013، فإن هذا النظام سيفقد سريعا ما حظى به من دعم الأغلبية الساحقة من قطاعات الشعب وصبرهم على والأعباء التضخمية المتولدة عن سياسات الإصلاح المالى وعن تسريع مشاريع البنية الاساسية. ولن يجدى، فى هذا السياق، انتهاج النظام بعض سياسات الرعاية الاجتماعية للفئات الاكثر تهميشا، فيما يستمر الوعى العام بتغييب الأغلبية عن المشاركة الحقيقية فى الإنتاج واقتسام الثروة. فى ضوء هذا الطرح، نظن أن أى حزم إصلاح اقتصادى واجتماعى عاجلة تضمن بعض هذه العدالة يمكن أن تستند إلى الركائز الثلاث التالية: 1- إنشاء شركات مساهمة كبرى تعنى بدعم فرص التنمية فى أقاليم مصر المختلفة، بحيث تكون أولوية الاكتتاب فى تلك الشركات لسكان كل من تلك الأقاليم، وتكون أولوية الالتحاق بالمشاريع التى تتولى تلك الشركات إما تأسيسها أو تمويلها هو لسكان هذه الأقاليم، بشرط توافر الكفاءة اللازمة. ويتعين أن تعنى هذه الشركات بتطوير قدرات سكان هذه الأقاليم وتدريبهم وإعادة تأهيلهم ليكونوا قادرين على الالتحاق بالجهد التنموى والاستفادة منه. وستمثل مشاركة أبناء كل إقليم فى دفع عجلة التنمية فيه والاستفادة منها، حافزا لهم لتوجيه مدخراتهم إلى النشاط التنموى دون غيره من الأنشطة غير المشروعة التى باتت واسعة الانتشار فى كثير من مناطق البلاد الأكثر تهميشا. 2- تعزيز ثقافة العمل التعاونى ودعمه خاصة على مستوى المشاريع المتوسطة والصغير ومتناهية الصغر. ولا يقتصر مفهوم العمل التعاونى على قطاع التوزيع والتجارة الداخلية، ولكنه يشمل مجالات الإنتاج الصناعى والزراعى وتوفير الخدمات على تنوعها، بما يوفر لها قدرات أكبر على مواجهة تكاليف الإنتاج والاستفادة من مزايا الإنتاج الكبير، فضلا عن قدرة أفضل على المنافسة والوصول إلى الأسواق. 3- إصلاح نظام المحليات وتعزيز اختصاصاته بحيث يصبح اكثر قدرة على المشاركة فى وضع خطط التنمية المحلية وتنفيذها وزيادة قدرة المواطنين على إدارة شؤون حياتهم المباشرة من دون الارتهان إلى قيود المركزية المتغولة وبطئها وتشوهاتها. مدير تحرير مجلة «السياسة الدولية»