لا يخفى على أحد، أن ليبيا، وبعد أن كانت تشكل متنفسا اقتصاديا لتونس، أصبحت عبئا ثقيلا تخشاه، لا فقط تونس، بل كل الدول المجاورة. ومردّ ذلك تمركز التنظيمات الجهادية، لا سيما تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، في بعض المناطق الليبية على غرار مدينتي سرت ودرنة (شمال البحر الأبيض المتوسط). وتبيّن أن التونسيين الذين نفّذوا عمليات إرهابية في تونس، تدرّبا في المراكز الجهادبة المتواجدة في تلك المناطق الليبية، الأمر الذي أثار جدلا في الأوساط الليبية والتونسية؛ ووجّهت تونس أصابع الاتهام للجارة ليبيا؛ وهو ما تتنصل من مسؤوليته السلطات الليبية، بذريعة ضعف الدولة واستحالة سيطرتها على الميليشيات المسلحة وتدفق أعداد كبيرة من التونسيين للالتحاق بتنظيم داعش. ويرى الخبراء أن كلا الطرفين على حق، وكلاهما متأثّر بالوضع العام الذي لحق به منذ أحدث 2011، وقد وضعهما تطوّر ظاهرة الإرهاب أمام مفترق يطرح على طاولة البحث تساؤلا محوريا: من يصدّر الإرهاب لمن.. ومن يحمي حدوده من من؟ وأثبتت التحقيقات الأمنية أن عديد من الشباب المنتمي لتنظيمات جهادية يدخل ليبيا للالتحاق بمعسكرات التدريب، ثم يعود لتونس لتنفيذ عمليات إرهابية. وكشفت التحقيقات في هذا الشأن أن كل من التونسيين صابر الخشناوي وياسين العبيدي وسيف الدين الرزقي منفذي عمليتي “باردو” و”سوسة” الإرهابيتين تلقوا تدريبات عسكرية في معسكرات “جهادية” في مدن ليبية. ليبيا مركز لاستقطاب الجهاديين دبلوماسيا، تمر العلاقات الليبية التونسية بما يوصف بال”فتور” وكانت حوادث اختطاف الدبلوماسيين التونسيين في طرابلس خلال الأشهر الماضية سببا لها، خصوصا بعد أن وجه وزير الخارجية التونسي الطيب البكوش، مؤخرا، تنبيها لجميع التونسيين، داعيا إياهم للعودة لبلادهم وتحميل السلطات الليبية مسؤولية أمن جاليتها، في نبرة بدت غير مسبوقة. واتخذت السلطات التونسية أيضا، مؤخرا، قرارا بغلق قنصليتيها في كل من طرابلس وبنغازي، والاكتفاء بإحداث مكتب قنصلي على الحدود مع منطقة رأس الجدير(محافظة مدنين/ جنوب) إثر حادثة اختطاف 10 دبلوماسيين تونسيين في طرابلس من قبل ميليشيات مسلحة في مايو الماضي، واشترطت تلك الميليشيات إطلاق سراح الليبي وليد القليب الموقوف لدى السلطات التونسية، وكان لهم ذلك بعد مفاوضات امتدت على نحو أسبوعين أفضت لإطلاق سراح الدبلوماسيين. ويوضح، الخبير الأمني التونسي علي زرمديني، أن “ليبيا بركان متنقّل لا يهدد الأرض الليبية فقط بل المنطقة برمتها”. ويتابع الخبير، وهو ضابط أمن متقاعد، قائلا إن “ليبيا منطقة تجمعت فيها قيادات التنظيمات الإرهابية في المنطقة من تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي ومن الأزواديين (مقاتلو الشمال المالي) وأنصار الشريعة والمُوقعون بالدم، إذ أصبحت نقطة ربط بين دول الساحل الأفريقي وشمال أفريقيا”. وأضاف أن ” تلك التنظيمات جعلت من ليبيا مركزا لاستقطاب الجهاديين، ومن ثم انتشارهم في الدول التي ينوون استهدافها”. الرابطة الجهادية الباحث هارون زيلين في “المركز الدولي لدراسة التطرف، نشر مؤخرا دراسة بعنوان ”الرابطة الجهادية التونسية – الليبية” خلص فيها إلى أن “العمليات الإرهابية بين تونس وليبيا لها امتداد تاريخي وتنسيق متواصل بين التنظيمات المسلحة في كلا البلدين”. وبين زيلين في دراسته أنه ”مع استمرار المخاوف الأمنية للحكومة التونسية وصعوبة ضبط أمن الحدود بين تونس وليبيا على مدى السنوات الأربع الماضية، من المرجح أن نشهد هجمات مستقبلية لتنظيم داعش، تنطلق إمّا من داخل ليبيا أو تكون مرتبطة بليبيا“. ومضى بالقول “إن ما شاهدناه حتى الآن لم يأتِ من العدم، بل انبثق عن تاريخ يمتد إلى عقود خلت ويمثل مشكلة تم تجاهلها في كثير من الأحيان من قبل المسؤولين التونسيين قبل ثورة 2011 وبعدها، أو لم تؤخذ على محمل الجد من قبلهم، أو إنهم ألقوا اللوم على حدوثها على الآخرين”. ويؤكد الباحث الأمريكي على أنه “في أعقاب تصنيف الحكومة التونسية لتنظيم أنصار الشريعة في تونس منظمة إرهابية أواخر أغسطس 2013، فإن كل من لم ينفصل عن التنظيم، قد تم اعتقاله، أو انضم إلى الجهاد في سوريا أو التحق بصفوف كتيبة عقبة بن نافع في جبل الشعانبي، أو فرّ إلى ليبيا وإلى أنصار الشريعة في ليبيا، بمن فيهم زعيم أنصار الشريعة في تونس سيف الله بن حسين المكنى ب ‘أبو عياض التونسي'، وبذلك حدث دمجٌ بين شبكات المقاتلين التونسيين والليبيين من خلال تغيير اسم أنصار الشريعة في تونس إلى “شباب التوحيد”. ويضيف زيلين أنه على الرغم من أن حركة النهضة الإسلامية لم تدعُ الأفراد صراحة إلى القتال ضد القوات السوفييتية خلال الجهاد الأفغاني، إلا أن المجاهدين كانوا ينخرطون باستمرار في شبكات الدعم اللوجيستي والتسهيلات التي يسّرت عبور الليبيين إلى المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، فوفقا لعضو مجلس الشورى السابق نعمان بن عثمان من «الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة» في أفغانستان في الثمانينات، حاول بعض الليبيين أن يساعدوا التونسيين على إقامة معسكر للجيش وتنظيم خاص بهم. ولم تؤت تلك الجهود ثمارها إلا في عام 2000، عندما تعاون الزعيمان المستقبليان لتنظيم «أنصار الشريعة في تونس»، طارق معروفي (ومقره في بروكسل) وسيف الله بن حسين (الذي انتقل من لندن إلى جلال آباد، أفغانستان) في تأسيس “الجماعة التونسية المقاتلة”. وفي أعقاب الجهاد الأفغاني، قام الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي بنفي العديد من أعضاء حركة النهضة إلى أوروبا في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات. وبينما عاد البعض منهم إلى دياره، تم جذب الملتزمين منهم إلى شبكات الجهاديين والمقاتلين الأجانب الذين انتشروا في جميع أنحاء أوروبا، لا سيما في ميلانو بإيطاليا. دبلوماسيا، تمر العلاقات الليبية التونسية بما يوصف بال"فتور" وكانت حوادث اختطاف الدبلوماسيين سببا لهذا التوتر. الإرهاب العابر للحدود وأصبحت ميلانو بؤرة مركزية للتجنيد، والخدمات اللوجستية، وتسهيل عبور المقاتلين الأجانب إلى ساحة حرب البوسنة والهرسك وكذلك مساعدة «الجماعة الإسلامية المسلحة» في الجهاد الجزائري. وفي حين عملت الشبكة بقيادة المصري أنور شعبان، إلا أن الجماعة المحيطة به تألفت بمعظمها من التونسيين والليبيين، مع بعض الجزائريين والمغاربة، الذين عملوا سوية آنذاك. وقد ساهمت هذه البيئة في تكوين علاقات مثيرة للاهتمام بين الأفراد أنفسهم ومع خلايا أخرى في أوروبا. ويشار في هذا السياق إلى العلاقة التي جمعت بين سامي الصيد بن خميس -الذي أصبح فيما بعد رئيسا لتنظيم أنصار الشريعة في تونس- والليبي الأسد بن هاني، الذي كان مقره في فرانكفورت، حيث خططا معاً للمؤامرة التي استهدفت تفجير كاتدرائية ستراسبورج (بالتعاون مع الشبكة الجهادية الجزائرية في لندن) عام 2000. وفي أعقاب حوادث 11 سبتمبر، كانت الفئة التي خلفت «الجماعة الإسلامية المسلحة» في الجزائر هي «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» (التي أصبح اسمها في النهاية تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» في عام 2007). وفي عام 2003، حاول نبيل صحراوي، زعيم تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» في ذلك الحين، أن يعمم الجهاد على المنطقة بما يتعدى حدود الجزائر ويؤكد على تجنيد المقاتلين من تونس وليبيا. وفي حين كان الجزائريون لا يزالون يهيمنون على التنظيم، عمل التونسيون والليبيون معا في “المنطقة الخامسة” التابعة ل «الجماعة السلفية للدعوة والقتال»، التي كانت على مقربة من الحدود التونسية تحت راية كتيبة «الفتح المبين». وهكذا تكونت العديد من العلاقات، التي أصبحت مهمة بعد عام 2011، إثر انخراط عدد من المتمرسين في الجهاد في العراق مع «أنصار الشريعة في تونس» و«أنصار الشريعة في ليبيا»، ومن ثم مع تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» في نهاية الأمر. وتمتد الحدود التونسية الليبية على نحو 500 كيلومتر وبها منفذان جهة البر، ”معبر الذهيبة وازن” و”معبر رأس جدير”، فيما تنشط على طول الحدود عمليات تهريب السلع والمحروقات التي تطورت إثر ثورة يناير 2011 لتشمل عمليات تهريب الأسلحة. ووفقا لتقارير أمنية لخبراء في الأممالمتحدة، فإن ما بين 1000 و1500 تونسي، التحقوا بتنظيمات جهادية بليبيا، من مجموع يتجاوز 5500 تونسي انظموا لتنظيمات إرهابية في سورياوالعراق ومالي واليمن.