كتب - علاء عريبي سُئل ابن تيمية عن اللعب بالشطرنج أحرام هو؟ أم مكروه؟ أم مباح؟ فإن قلتم: حرام، فما الدليل على تحريمه؟ وإن قلتم: مكروه، فما الدليل على كراهته أو مباح فما الدليل على إباحته؟ فأجاب: اللعب بها، منه ما هو محرم متفق على تحريمه، ومنه ما هو محرم عند الجمهور، ومكروه عند بعضهم، وليس من اللعب بها ما هو مباح مستوى الطرفين عند أحد من أئمة المسلمين، فإن اشتمل اللعب بها على العوض كان حراما بالاتفاق، قال أبو عمر بن عبد البر إمام المغرب: أجمع العلماء على أن اللعب بها على العوض قمار لا يجوز. وكذلك لو اشتمل اللعب بها على ترك واجب أو فعل محرم، مثل أن يتضمن تأخير الصلاة عن وقتها، أو ترك ما يجب فيها من أعمالها الواجبة باطنا أو ظاهرا، فإنها حينئذ تكون حراما باتفاق العلماء. والمقصود أن «الشطرنج» متى شغل عما يجب باطنا أو ظاهرا حرام باتفاق العلماء. وشغله عن إكمال الواجبات أوضح من أن يحتاج إلى بسط. وكذلك لو شغل عن واجب من غير الصلاة، من مصلحة النفس أو الأهل أو الأمر بالمعروف أو النهى عن المنكر أو صلة الرحم، أو بر الوالدين أو ما يجب فعله من نظر فى ولاية أو إمامة أو غير ذلك من الأمور، وقلَّ عبد اشتغل بها إلا شغلته عن واجب، فينبغى أن يعرف أن التحريم فى مثل هذه الصورة متفق عليه. وكذلك إذا اشتملت على محرم أو استلزمت محرما فإنها تحرم بالاتفاق، مثل اشتمالها على الكذب، واليمين الفاجرة، أو الخيانة التى يسمونها المغاضاة أو على الظلم أو الإعانة عليه فإن ذلك حرام باتفاق المسلمين. ولو كان ذلك فى المسابقة والمناضلة فكيف إذا كان بالشطرنج والنرد، ونحو ذلك وكذلك إذا قدر أنها مستلزمة فسادا غير ذلك، مثل اجتماع على مقدمات الفواحش، أو التعاون على العدوان أو غير ذلك، أو مثل أن يفضى اللعب بها إلى الكثرة والظهور الذى يشتمل معه على ترك واجب أو فعل محرم، فهذه الصورة وأمثالها مما يتفق المسلمون على تحريمها فيها. وإذا قدر خلوها عن ذلك كله فالمنقول عن الصحابة المنع من ذلك. وصح عن على بن أبى طالب، رضى الله عنه، أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج، فقال: ما هذه التماثيل التى أنتم لها عاكفون؟ شبههم بالعاكفين على الأصنام، كما فى المسند عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «شارب الخمر كعابد وثن»، والخمر والميسر قرينان فى كتاب الله تعالى. وكذلك النهى عنها معروف عن ابن عمر وغيره من الصحابة. والمنقول عن أبى حنيفة وأصحابه وأحمد وأصحابه «تحريمها». وأما الشافعى فإنه قال: أكره اللعب بها، للخبر، واللعب بالشطرنج والحمام بغير قمار وإن كرهناه أخف حالا من النرد، وهكذا نقل عنه غير هذا اللفظ مما مضمونه أنه يكرهها ويراها دون النرد، ولا ريب أن كراهته كراهة تحريم، فإنه قال: للخبر. ولفظ الخبر الذى رواه هو عن مالك «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله» فإذن كره الشطرنج. وإن كانت أخف من النرد، وقد نقل عنه أنه توقف فى التحريم وقال: لا يتبين لى أنها حرام. وما بلغنا أن أحدا نقل عنه لفظا يقتضى نفى التحريم. والأئمة الذين لم تختلف أصحابهم فى تحريمها أكثر ألفاظهم «الكراهة». قال ابن عبد البر: أجمع مالك وأصحابه على أنه لا يجوز اللعب بالنرد ولا بالشطرنج، وقالوا: لا يجوز شهادة المدمن المواظب على لعب الشطرنج. وقال يحيى: سمعت مالكا يقول: لا خير فى الشطرنج وغيرها وسمعته يكره اللعب بها وبغيرها من الباطل ويتلو هذه الآية: «فماذا بعد الحق إلا الضلال»، وقال أبو حنيفة: أكره اللعب بالشطرنج والنرد. فالأربعة تحرم كل اللهو. وقد تنازع الجمهور فى مسألتين: «إحداهما» هل يسلم على اللاعب بالشطرنج؟ فمنصوص أبى حنيفة وأحمد والمعافى بن عمران وغيرهم: أنه لا يسلم عليه. ومذهب مالك وأبى يوسف ومحمد: أنه يسلم عليه. ومع هذا فإن مذهب مالك أن الشطرنج شر من النرد. ومذهب أحمد أن النرد شر من الشطرنج كما ذكره الشافعى. والتحقيق فى ذلك أنهما إذا اشتملا على عوض أو خلوا عن عوض فالشطرنج شر من النرد، لأن مفسدة النرد فيها وزيادة مثل صد القلب عن ذكر الله، وعن الصلاة، وغير ذلك، ولهذا يقال: إن الشطرنج على مذهب القدر، والنرد على مذهب الجبر. واشتغال القلب بالتفكير فى الشطرنج أكثر، وأما إذا اشتمل النرد على عوض فالنرد شر. وهذا هو السبب فى كون أحمد والشافعى وغيرهما جعلوا النرد شرا لاستشعارهم أن العوض يكون فى النرد دون الشطرنج. ومن هنا تبين الشبهة التى وقعت فى هذا الباب، فإن الله تعالى حرم الميسر فى كتابه، واتفق المسلمون على تحريم الميسر، واتفقوا على أن المغالبات المشتملة على القمار من الميسر، سواء كان بالشطرنج أو بالنرد أو بالجوز أو بالكعاب أو البيض، قال غير واحد من التابعين: كعطاء وطاووس ومجاهد، وإبراهيم النخعى: كل شىء من القمار فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز. فالذين لم يحرموا الشطرنج كطائفة من أصحاب الشافعى وغيرهم اعتقدوا أن لفظ «الميسر» لا يدخل فيه إلا ما كان قمارا، فيحرم لما فيه من أكل المال بالباطل، كما يحرم مثل ذلك فى المسابقة والمناضلة لو أخرج كل منهما السبق ولم يكن بينهما محلل، حرموا ذلك لأنه قمار. وفى السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أدخل فرسا بين فرسين وهو آمن أن يسبق فهو قمار، ومن أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار»، «والنبى صلى الله عليه وسلم حرم بيوع الغرر»، لأنها من نوع القمار، مثل أن يشترى العبد الآبق والبعير الشارد، فإن وجده كان قد قمر البائع وإن لم يجده كان البائع قد قمره، فلما اعتقدوا أن هذه المغالبات إنما حرمت لما فيها من أكل المال بالباطل لم يحرموها إذا خلت عن العوض. ولهذا طرد هذا طائفة من أصحاب الشافعى المتقدمين فى «النرد» فلم يحرموها إلا مع العوض، لكن المنصوص عن الشافعى وظاهر مذهبه تحريم النرد مطلقا، وإن لم يكن فيها عوض، ولهذا قال: أكرهها، للخبر. فبيّن أن مستنده فى ذلك الخبر لا القياس عنده. وهذا مما احتج به الجمهور عليه فإنه إذا حرم النرد ولا عوض فيها فالشطرنج إن لم يكن مثلها فليس دونها. وهذا يعرفه من خبر حقيقة اللعب بها، فإن ما فى النرد من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ومن إيقاع العداوة والبغضاء هو فى الشطرنج أكثر بلا ريب، وهى تفعل بالنفوس أعظم مما تفعل حميا الكؤوس. فتصد عقولهم وقلوبهم عن ذكر الله وعن الصلاة أكثر مما يفعله بهم كثير من أنواع الخمور والحشيشة. وقليلها يدعو إلى كثيرها، فتحريم النرد الخالية عن عوض مع إباحة الشطرنج مثل تحريم القطرة من خمر العنب وإباحة الغرفة من نبيذ الحنطة. وكما أن ذلك القول فى غاية التناقض من جهة الاعتبار والقياس والعدل، فهكذا القول فى الشطرنج. «وتحريم النرد» ثابت بالنص كما فى السنن عن أبى موسى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله»، وقد رواه مالك فى «الموطأ»، وروايته عن عائشة رضى الله عنها أنه بلغها أن أهل بيت فى دارها كانوا سكانا لها عندهم نرد فأرسلت إليهم: إن لم تخرجوها لأخرجنكم من دارى، وأنكرت ذلك عليهم. ومالك عن نافع عن عبد الله ابن عمر، أنه كان إذا وجد من أهله من يلعب بالنرد ضربه وكسرها. وفى بعض ألفاظ الحديث عن أبى موسى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذكرت عنده، فقال: «عصى الله ورسوله من ضرب بكعابها يلعب بها»، فعلق المعصية بمجرد اللعب بها ولم يشترط عوضا، بل فسر ذلك بأنه الضرب بكعابها. وقد روى مسلم فى صحيحه عن أبى بريدة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده فى لحم خنزير ودمه»، وفى لفظ آخر: «فليشقص الخنازير»، فجعل النبى صلى الله عليه وسلم فى هذا الحديث الصحيح اللاعب بها كالغامس يده فى لحم الخنزير ودمه، وكالذى يشقص الخنازير: يقصبها ويقطع لحمها كما يصنع القصاب. وهذا التشبيه متناول اللعب بها باليد، سواء وجد أكلا أو لم يوجد، كما أن غمس اليد فى لحم الخنزير ودمه وتشقيص لحمه متناول لمن فعل ذلك، سواء كان معه أكل بالفم أو لم يكن، فكما أن ذلك ينهى عنه، وإن لم يكن معه، أكل مال بالباطل، فكذلك النرد ينهى عنه وإن لم يكن معه أكل مال بالباطل. وهذا يتقرر بوجوه يتبين بها تحريم «النرد» «والشطرنج» ونحوهما. «أحدها» أن يقال: النهى عن هذه الأمور ليس مختصا بصورة المقامرة فقط، فإنه لو بذل العوض أحد المتلاعبين أو أجنبى لكان من صور الجعالة، ومع هذا فقد نهى عن ذلك، إلا فى ما ينفع: كالمسابقة والمناضلة كما فى الحديث: «لا سبق إلا فى خف أو حافر أو نصل»، لأن بذل المال فى ما لا ينفع فى الدين ولا فى الدنيا منهى عنه، وإن لم يكن قمارا. وأكل المال بالباطل حرام بنص القرآن، وهذه الملاعب من الباطل، لقول النبى صلى الله عليه وسلم: «كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رميه بقوسه أو تأديبه فرسه أو ملاعبته امرأته فإنهن من الحق». قوله «من الباطل» أى مما لا ينفع، فإن الباطل ضد الحق. والحق يراد به الحق الموجود اعتقاده والخبر عنه. ويراد به الحق المقصود الذى ينبغى أن يقصد، وهو الأمر النافع، فما ليس من هذا فهو باطل، ليس بنافع.