تسبق الثورات دائما أشكال من التخبطات التى ترتكبها الحكومات أو الأنظمة القائمة، وتكون سرعة القرارات وتطبيقها سمات بارزة فى تلك المراحل التاريخية، وهنا يشعر كثيرون من المتابعين للأحداث السياسية بخطورة تلك المراحل التى تكون قلقة ومقلقة ومنذرة بتغييرات جذرية فى المجتمع عموما. وتعتبر فترة الأشهر الستة التى سبقت ثورة 23 يوليو 1952 نموذجا ناصعا، لتنطبق عليه هذه السمات، منذ حكومة حزب الوفد عام 1950 بشعبية كاسحة، ثم إلغاء معاهدة 1936، ثم الانهيارات السياسية والديمقراطية التى لحقت بأداء تلك الحكومة، ومحاولتها سنّ قوانين مقيدة للحريات، ولكنّ كثيرين من المعارضين السياسيين لاحقوا تلك التشريعات بالهجوم، ومنعوا صدورها بقوة، ثم التحالفات المرئية والمعلنة والسرّية بين الملك والحكومة، ثم حريق القاهرة فى 26 يناير 1952 الذى وضع الجميع فى قفص الاتهام، والعبث بمصير الوطن. وهنا برزت إلى السطح قوتان متناقضتان، القوة الأولى تمثلت فى تنظيم الضباط الأحرار، هذا التنظيم الذى كانت تقوده مجموعة مجهولة من الضباط الوطنيين، الذين لا يحلمون إلا بإنهاء ذلك العبث الذى كان يسعى بقوة لتدمير البلاد، ولم تكن ملامح وعلامات الإعلان عن هذا التنظيم ممثلة فى البيانات التى كانت تصدر فى ذلك الوقت فقط، ولكن برزت ملامح ذلك التنظيم الوطنى فى الانتخابات التى جرت فى نادى الضباط، وتكتلت قوة التنظيم الوطنية لإنجاح اللواء محمد نجيب، فى مواجهة مرشح السراى، أما القوة الثانية فهى «جماعة الإخوان المسلمين»، وذلك ليس تبعا لتاريخ من الوطنية، بل لتغلغلهم بكل الحيل والملابسات فى المشهد السياسى المعلن وغير المعلن فى ذلك الوقت. وبعد حريق القاهرة الشهير، تمت إقالة حزب الوفد، وحدثت الارتباكات الكبرى بعد ذلك، فتم تشكيل الوزارات التى تعاقبت آنذاك قبيل قيام الثورة، ووصلت إلى أربع حكومات، وكان حزب الوفد المقال قد أنهكته التحالفات الخائبة مع الملك والسراى، وهذا التحالف الاضطرارى كان قائما ضد كل الحركات الوطنية والديمقراطية، التى جددت نضالها ضد السراى والإنجليز والرجعية منذ أواسط أربعينيات القرن الماضى. وكان فؤاد باشا سراج الدين هو أحد نجوم المرحلة، وكان مؤهلًا لقيادة حزب الوفد فى ذلك الوقت بعد النحاس باشا، وذلك لأن العمر قد تقدم بالنحاس، وتعرض لأشكال من الهجوم المتعاقب والمتعدد من جهات عديدة، وكانت مؤسسة ودار «أخبار اليوم» تلعب دورا -لحساب السراى- فى تحطيم حزب الوفد، والنحاس شخصيا، والتلويح بتبعيته لزوجته زينب الوكيل بشكل أبرزته صحف الدار بشكل غير أخلاقى، وفيه كثير من الكذب، وتوجت الدار هجومها على النحاس باشا بإصدار كتاب تحت عنوان «كيف تحكم مصر»، لرصد فضائح الزعيم الوهمية. لذلك برز سراج الدين باشا كأحد مهندسى المستقبل فى تلك المرحلة، رغم انهيار حزب الوفد، وابتعاده عن تأدية رسالته التاريخية منذ أكثر من ثلاثين عاما بعد ثورة 1919، ولاحت فى الأفق التحالفات التى يمكن أن تحدث بين الباشا وبعض الرأسماليين الكبار، خصوصا رجل الأعمال الكبير المهندس أحمد عبود باشا، الذى كان أحد المسيطرين على الحياة الاقتصادية وبالتالى السياسية المصرية، وكان ذلك قبل قيام الثورة بأقل من عشرة أيام. هنا تنبهت السيدة فاطمة اليوسف، صاحبة مجلة «روزاليوسف»، وكتبت فى 14 يوليو 1952 فى المجلة «رسالة إلى فؤاد سراج الدين باشا.. احذّرك من عبود!!»، هكذا على المكشوف، ودون لفّ ودوران، وفى الرسالة تضرب اليوسف فى اتجاهات عدة، لوضع النقاط الحقيقية على حروف المرحلة التاريخية، لتفضح تلك التحالفات المعلنة والسرية، بين أعتى مؤسسة -كانت شعبية وديمقراطية-، والممثل الأكبر لرأس المال، أى هذا الزواج غير المشروع والمفسد بين المال والسياسة. وفى الرسالة يتم تشخيص سراج الدين بدقة، إذ تقول فاطمة: «ويؤسفنى عندما أنظر إليك فى ماضيك القريب أن أراك سياسيا أكثر منك زعيما شعبيا، ولو رأيت فى نفسك ما أراه -وتستطيع دائما أن تراه- لعرفت أن كل ما تعرضت له وما عرّضت له حزبك من مصائب كان سببه السياسة، لا الوطنية، وكان سببه أن إيمانك بأن ذكاءك يستطيع أن يصونك أكثر مما يصونك مبدؤك، وأن أصدقاءك الكبار يستطيعون أن يحموك مما لا يستطيع أن يحميك منه الشعب الضعيف..». هذه رسالة من تلك الرسائل التى توجهها اليوسف إلى سراج الدين بشكل مباشر، بعدما فوّضه النحاس باشا لقيادة وفد المستقبل، هذا بالإضافة إلى رسائل أخرى تقول إن سراج الدين وصل إلى المكانة الحزبية هذه عبر أشكال معقدة من الحركة والدأب فى ممالأة الباشا، ومصادقة الكبار، واستثمار مكانته السياسية لتمكينهم الاقتصادى، وهذا لم يكن جديدا على الحياة السياسية فى مصر آنذاك، كما أنه يعود بقوة بين الحين والآخر فى مصر. وهنا تصل اليوسف إلى مربط التحذير من الأصدقاء، ولا تقصد الأصدقاء الهامشيين والانتهازيين الذين يحيطون به، ولكنه تحذير من عبود باشا، أخطر رجل اقتصادى فى مصر آنذاك، وتناشده الابتعاد عنه، ف«عبود باشا رجل اقتصاد ومشاريع وشركات، ولو كان له تاريخ كتاريخ طلعت حرب مثلا لكان أهلًا لصداقة زعيم شعبى، بل لكل زعيم شعبى الشرف الكبير لصداقته، ولكنك تعرف عن عبود باشا ما أعرفه، وتعرف وسائله وطرقه وأهدافه ومراميه، وهى كلها لا تؤهله لتوجيه حركة وطنية، ولا تؤهله للسيطرة على زعيم شاب مثلك، ولا تؤهله للإدلاء برأى فى مصير شعب وفى سياسة حزب كبير يحاول أن يحتفظ بالأغلبية الشعبية..». وتسترسل فاطمة اليوسف فى تحذير فؤاد سراج الدين من زواج المال بالسياسة، ولكن لم تمهله الثورة، إذ قامت بعد أسبوع لتقصف تلك الصفقات المشبوهة التى كانت تحدث فى ذلك الزمان، وكل زمان كذلك.