حكيت فى السطور القديمة التى أعدت نشرها، أمس، كيف أن ضابطًا من جهاز مباحث أمن الدولة القديم «المتجدد حاليًا» حاورنى عنوة وأنا خارج من السجن مرة أيام المخلوع أفندى وولده مركزًا ثرثراته اللزجة معى على استنكار تعاطفى وتأييدى حق «الإخوان» فى التعبير الحر عن أفكارهم التى تناقض أفكارى، وحذَّرنى من أن هؤلاء القوم لو وصلوا إلى السلطة سيذبحون أمثالى بغير رحمة، فسألته ماذا سيكون موقفه هو فى هذه الحال، فجاوب بكل صدق وصراحة بما معناه، أن أمثاله «عصاية» دائمة فى يد كل طاغية وأى عصابة تعتلى كراسى الحكم، وقال بوضوح: سننفّذ أوامرهم ونذبحكم ذبحًا حلالًا إن شاء الله!! والآن عزيزى القارئ، انظر حولك وستكتشف فورًا أن ما قاله نطع مباحث أمن الدولة كان بمثابة نبوءة سوداء تحقَّقت فعلًا، فأمثال النطع المذكور يكررون خطايا وجرائم الماضى الأليم بحذافيرها ويستعيدون للست «ريما» عاداتها القبيحة القديمة نفسها، خصوصًا بعدما أستوزرت «جماعة الشر» الحاكمة الأخ المسكين وزير الداخلية الحالى، لكى يلعب دور «الذراع» القمعية للمخبولين الفاشيين المتحصنين فى مغارة «المقطم». والحق أن الدلائل والنماذج المحزنة لهذه العودة غير المحمودة تقاطرت وتراكمت فى الأيام الأخيرة، حيث بدا واضحًا أن شرطة ما قبل ثورة 25 يناير التى هجرت واجبها الأصلى وتفرَّغت لقمع وسحق عظام المعارضين للنظام الفاسد، هناك مَن يجاهد ويعافر لإعادة إنتاجها هذه الأيام.. ولكن ككل نفاية تاريخية يعاد تدويرها تكون النتيجة انحطاطًا أكثر وفسادًا أبشع وخيبة أقوى. عزيزى.. إذا لم تكن حوادث الإجرام والقتل بالجملة التى رأيناها مؤخرًا وعودة مشاهد السحل فى الشوارع والاعتقال العشوائى اليومى للمئات بمن فيهم أطفال (راجع صور الهمجية والتوحش المنشورة أمس فى صدر صحيفة «المصرى اليوم») إن لم يكن هذا كله كافيًا للدلالة على الكارثة التى يعيد المجرمون الجدد تسكين جهاز الشرطة فيها مرة أخرى، فسأهديك فى السطور التالية ملخّص حكاية اختطاف زميلنا الصحفى الشاب أحمد أبو القاسم. مساء الثلاثاء الماضى ولمدة تزيد قليلًا على نصف ساعة شاهد المارة فى منطقة شارع مكرم عبيد بحى مدينة نصر شابًا يافعًا يقف وحده صامتًا على الرصيف يرفع بيده لافتة كتب عليها عبارة احتجاجية، تقول «إذا كنتم تريدون اعتقال شباب البلاك بلوك، فلماذا لا تعتقلون أولًا ميليشيات الإخوان التى قتلت وعذَّبت المصريين العزل تحت قصر الاتحادية».. هذا الشاب هو زميلنا أحمد، وقد ظل واقفًا فى مكانه يبادل المارة الابتسام (بمن فيهم ضابط شرطة شاب مثله) حتى داهمه رجل كهل قليل الأدب والعقل معًا، غاظته العبارة المكتوبة على اللافتة، فانفجر فى وجه زميلنا بسيل من الشتائم والبذاءات تجاهلها أحمد، فلما تجاوز الأمر السفالة والعدوان اللفظى وبدأ الرجل الكهل يمد يده محاولًا خطف اللافتة من يد الزميل رد الأخير العدوان بطريقة متحضرة، إذ نحى اللافتة بعيدًا وقال للرجل ما معناه: إذا كان هذا الكلام لا يعجبك تستطيع أن تقف مثلى حاملًا لافتة أخرى تؤيد فيها ميليشيات الإخوان وجرائمها، لكن ليس من حقك منعى من التعبير السلمى عن رأى يخالف رأيك. لم تفلح كلمات زميلنا أحمد فى ردع الكهل المغرور قليل الأدب، بل زادته هياجًا، ما اضطر الزميل إلى الاستعانة بضابط الشرطة الشاب الذى كان يؤدّى عمله بالقرب من المشهد، وبالفعل تحرك الزميل صوب الضابط فإذا بالرجل يتحرك ويمشى معه بجرأة ووقاحة تشى بأنه مسنود جيدًا ولا يحفل بشرطة ولا قانون ولا حاجة أبدًا ألبتة. لم يكن الضابط فى حاجة إلى سماع شكوى الزميل، فقد كان يرى ويتابع ما يحدث، لهذا سارع بتوجيه الكلام إلى الكهل وكرر على مسامعه أن من حق أى مواطن أن يعبر عن رأيه بسلمية وتحضر، وأن زميلنا لم يرتكب شيئًا مخالفًا للقانون.. غير أن كلمات الضابط ذهبت سدى هى أيضًا فقد تمادى الأخ «المسنود» فى غيّه وصلفه وظل يسب ويلعن ويهلفط بكلام فارغ كثير ليس فيه شىء مفهوم سوى أنه عضو فى الست «جماعة الشر»، عندئذ لم يجد ضابط الشرطة مخرجًا إلا نصيحة زميلنا أحمد بالذهاب إلى قسم الشرطة القريب وتحرير محضر بالواقعة. قال الضابط هذه النصيحة، وهو يظن أن الرجل قليل الأدب سيؤثر السلامة ويتسرّب ويمشى، غير أن ما حدث أنه بدا فرحانًا متحديًا وذهب طواعية فى أثر الزميل إلى قسم الشرطة، وهناك انفضح سبب الصلف والغرور فقد تحوّل زميلنا الشاب بقدرة قادر (وبعد اتصالات هاتفية فورية بلهو خفى) من شاكٍ ومجنى عليه إلى متهم موقوف بتهمة لا يعرفها، مقابل تبجيل واحترام مبالغ فيه للجانى الذى ما أن تأكد أن رحلة التنكيل بضحيته قد بدأت بالفعل حتى غادر مبنى القسم منتشيًا مبسوطًا تاركًا أحمد لزبانية (بملابس مدنية) هبطوا وتقاطروا على القسم وظلوا طوال الليل يسائلونه ويحققون معه فى سيارة «ميرى» راحت تتنقل به من منطقة نائية لأخرى (بهدف بث الرعب فى نفسه) وفى ظهيرة اليوم التالى نُقل مخفورًا إلى النيابة متهمًا بأنه عضو فى جماعة «بلاك بلوك» التى كان معالى «النائب الخصوصى» للشيخ مرسى قد أصدر قرارًا ينضح بالغرابة والشذوذ، يقضى بضبط وإحضار أى أحد فى الدنيا بشبهة عضويتها!! ولأن الزبانية الجدد، لا تنقصهم الخيبة ولا الهيافة فقد دسّوا على الزميل إثباتًا للتهمة قناعًا أسود اللون من النوع «الميرى» الذى تستخدمه قوات الأمن المركزى للوقاية من الغازات.. طبعًا الخيبة انكشفت وأفرجت النيابة عن الزميل!!