(وقد أصدرت المحكمة حضوريا الأحكام التالية: فقء عين المتهم الأول، اغتصاب المتهم الثانى، دهس المتهم الثالث بسيارة ربع نقل، وسرقة منزل المتهم الرابع. رُفعت الجلسة. وكان المتهم الأول قد فقأ عين جاره فى أثناء مشاجرة، وارتكب المتهم الثانى جناية اغتصاب، بينما صدم المتهم الثالث بسيارته أحد المارة، أما الرابع فقد سرق شقة سكنية فى غياب أصحابها). هذا الخبر «التخيّلى» السابق، قد لا يكون خياليا تماما، إن مثله يصدر كل يوم، فقط مع تغيير فى نوع الجريمة: فى جرائم القتل، تقرر المحكمة أن تطبق نفس «الجريمة» ضد مرتكبها، فتقتله، وهو الإجراء المعروف باسم «عقوبة الإعدام». تعريف الإعدام هو: (القتل العمد) بواسطة الدولة. إذن، لو أنك صفعت أحدهم، فإن القانون يمنع السلطات أن تصفعك، ويسمّى ذلك «استعمال القسوة»، لكن القانون نفسه -فى الدول التى تطبق عقوبة الإعدام- يسمح للدولة أن تلف حبلا حول رقبتك وتخنقك حتى الموت، أو تضع رأسك على طاولة وتقطعه بالسيف، أو تحقنك بالسّم، أو تخنقك بالغاز، أو ترميك برصاص مدفع رشاش، إلى آخر الوسائل المتنوعة التى تفنن فيها البشر، ونحن نتكلم هنا طبعا عن الوسائل الحديثة «الراقية» من الإعدام (بلاش نتكلم فى الماضى). ما زال هذا يحدث، رغم أن القوانين الحديثة عموما لم تعد تطبق مبدأ «العين بالعين» بشكل حرفى، إذ لا يُسمح للسلطات أن تفقأ عين من يفقأ عين أخيه، لقد مرت آلاف السنين، منذ كان قانون حمورابى يقضى بقتل ابنك، لو أنك قتلت ابن أحدهم و(إذا وقع البيت فمات ابن المشترى، يقتل ابن بنّاء البيت)، مرورا فى ما بعد ب«الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد»، إلى أن تم الفصل التام بين مفهوم العقوبة «ردع وتهذيب»، ومفهوم الانتقام. لا ينفى ذلك أن ثمة مناطق فى العالم ما زالت تؤمن بشريعة حمورابى، فلتتذكر ذلك حين تسمع من يرتكب جريمة الثأر يقول: «قتلنا ابنه الكبير عشان نحرق قلبه». لكن بالطبع، عندما ترد سيرة الإعدام، فإن ما يرد إلى ذهنك ليس ما سبق، وإنما صورة -أقرب إلى السينما- عن القاتل المعترف النادم وقد التف حول رقبته حبل المشنقة، أما فى الحياة الواقعية فيندر أن تعرف البرىء المظلوم من القاتل الحقيقى، فلا فارق كبيرا بين تلفيق قضية مخدرات أو قضية قتل، بل تضع جريمة القتل ضغوطا أكبر على السلطات لإيجاد متهمين، ومن لا يستطيع توكيل محام جيد فإن فرصته -فى أى قضية- ضعيفة جدا، كما أن «القتل العمد» هو مجرد جريمة واحدة فقط من الجرائم التى يُعاقب عليها بالإعدام فى الدول المختلفة، بدءا من الاتجار فى المخدرات، وصولا إلى التجسس ومحاولة قلب نظام الحكم والجرائم العسكرية، مرورا بالزنى والفاحشة والإساءة إلى الدين أو الرئيس أو الذات الملكية، أما أكبر عدد من الإعدامات فى العالم فتطبقه الصين، التى تمارسه ضد المدانين بالفساد والجرائم الاقتصادية، وفى المركز الثانى إيران، ثم السعودية، وباكستان، ثم الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهى الدولة الوحيدة من العالم الديمقراطى التى تطبق الإعدام فى بعض ولاياتها، وبشكل عام، وفقا لمنظمة العفو الدولية، فإن ثلثى دول العالم إما أنها ألغت عقوبة الإعدام رسميا، وإما توقفت عن تطبيقها عمليا، خصوصا أن معدل الجرائم لم يتأثر بإبقائها أو إلغائها والاستعاضة عنها بالسجن، ولو أنك سألت أى خبير، سيخبرك أن «جرائم النفس»، على عكس غيرها من الجرائم، من النادر أن يكون للشخص فيها «سجل إجرامى»، وإنما أغلب الحالات تكون تلك جريمتها الأولى والأخيرة، هذا لو أنها ارتكبتها فعلا. أعرف أنك تريد أن تذكرنى ب«القصاص» الشرعى، لن أدخل معك فى جدل فقهى، فقط أود أن ألفت انتباهك، إلى أن عقوبة الإعدام، شىء يختلف تماما عن القصاص الشرعى، فالأخير -على عكس القانون المدنى- يختلف فيه المسلم عن غير المسلم، والأب عن الابن عن الأم، ويشمل «الدية» بديلا عن القتل، أما القانون المدنى فيستند -فى الإعدام وغيره- إلى «حق المجتمع»، لمنع الابتزاز أو الضغط على أهالى الضحايا للتنازل، كما أن القتل الشرعى لا ينصّ بالضرورة على حبل المشنقة، وقد يستبدل به «قطع الأيدى والأرجل من خلاف» فى حالة «الإفساد فى الأرض». ولأن النظام القضائى -مدنيا أو شرعيا- يطبقه بشر، فهو قابل دائما لاحتمالات الخطأ، ويزداد احتمال الخطأ كلما تدهورت الدولة ونظامها القانونى، وزادت فيها احتمالات التلفيق والتعذيب، ويزداد أكثر كلما كانت العقوبة جماعية، فى ظروف مضطربة، مرتبطة بصراعات سياسية، ومطلوب منها أن «تبرّد نار» هذا و«تشفى غليل» ذاك. «الإعدام» تذكرة بلا عودة تُصرف للمجرم والمظلوم معا، عفوا: أقصد الفقراء والضعفاء منهم، متى سمعت عن إعدام مليونير؟ رئيس؟ أو حتى ضابط شرطة؟ أنت تعرف أنه «ياما فى الحبس مظاليم»، أليس كذلك؟ فلماذا تعتقد أن ذلك لا ينطبق على زنزانة الإعدام؟