نهر الدم يجتاح مدينتى. زهرة المدائن المصرية بورسعيد فى محنة، شلال الحزن القادم من هناك يكاد يقتل الهواء الذى نتنفسه. ها نحن فى زمن تُعاقَب فيه المدينة التى افتدت مصر بألوف الشهداء، والتى تحول اسمها إلى أنشودة للملايين من أحرار العالم فى كل مكان. ها نحن فى زمن يسقط فيه الشهداء فى مدينتى برصاص أشقاء فى الوطن لأول مرة. ها نحن فى زمن يسقط فيه الشهداء وهم يدفنون من سبقوهم فى الشهادة! عرفت المدينة إطلاق النار على جنازات الشهداء مرة من قبل. فى حرب 56 ومع أول دفعة من شهداء أشرف المعارك، خرجت بورسعيد لتدفنهم فى المقابر. طائرات بريطانيا وفرنسا داهمت الجنازة أو اختلطت جثث المشيعين بجثث الضحايا. وبعدها حوّل أهل بورسيعد ملعب النادى المصرى إلى مقبرة مؤقتة ضمت ألوف الشهداء، بعد أكثر من خمسين عاما يتكرر المشهد، لكن رصاصات الموت لا تأتى من عدو خارجى!! مدينتى لا تخاف الموت، كتبت تاريخها بالصمود وأغلى التضحيات. نصف شوارع بورسعيد بأسماء الشهداء، جدران أبنيتها تحكى تاريخ النضال من أجل حرية مصر واستقلالها. هنا ارتفع علم مصر على القائمة البريطانية بعد خروج آخر جندى من الاحتلال عام 56. هنا ارتفع نفس العلم خفّاقا على قناة السويس بعد استعادتها. هنا كانت أروع بشائر النصر فى معركة رأس العش، وهنا كان الصمود العظيم فى حرب الاستنزاف، وهنا كان النصر فى 73، وهنا كانت أجيال وأجيال من الشهداء، وكانت بيوت تهدم، وآلاف العائلات تضطر إلى تحمل ويلات الغربة. لم يطلبوا الثمن لما قدموا، لكنهم لم ينتظروا أن يأتى اليوم الذى تتعرض فيه مدينتهم التى كانت وستظل رمزا للنضال الوطنى إلى ما تتعرض له اليوم من حملات كراهية، ومن عقاب على جريمة وقعت على أرضهم، وكانوا أول من أدانوها وأول من طالبوا بالقصاص العادل عنها. أكتب مبكرا ولا أعرف هل سيسقط شهداء جدد اليوم حين تشيِّع المدينة شهداء أمس، الذين سقطوا بدورهم وهم يشيعون جنازة من سبقوهم إلى الموت أول من أمس؟! لكن الأحداث تأخذنى إلى بعيد.. بعد حرب 56 بسنوات قليلة شهدت بورسعيد أحداثا مؤسفة تقترب مما نراه اليوم. مباراة كرة أيضا انتهت بصدام داخل الملعب كان فى هذه المرة بين جماهير النادى المصرى والشرطة. أخطأت القيادات الأمنية فى التعامل مع الموقف، وسقط عدد من الضحايا. اشتعلت المدينة بالغضب. تطورت الأحداث وشهدت المدينة صدامات بين الجماهير والشرطة امتدت لأيام. لم يسقط ضحايا جدد، لأن القيادة السياسية أدركت على الفور خطورة الموقف، وكان القرار بعدم استخدام الرصاص على الإطلاق. فى وداع الشهداء الذين سقطوا يومها كان المشهد غريبا. كان هناك قرار بأن تكون الحكومة حاضرة. سارت الجنازة وفى مقدمتها وزير الداخلية، ومعه نصف أعضاء الحكومة. أمامهم كانت مظاهرة حاشدة تطلب محاكمة المسؤولين وتهتف بسقوط الحكومة، وتهاجم جمال عبد الناصر! لم يعترض أحدٌ المظاهرةَ حتى عندما مرت على أحد أقسام الشرطة وهاجمته، كان الكل يعرف حجم الغضب ويقدر المسؤولية عما وقع من خطأ. بعد الجنازة بدأ التعامل السياسى مع الموقف من خلال القيادات الشعبية والرسمية، وبدأت محاولات احتواء الاحتقان. وعندما جاء موعد الاحتفال بعيد النصر فى 23 ديسمبر، كانت هناك تقارير تنصح بأن لا يذهب عبد الناصر إلى بورسعيد كعادته كل عام، وكان رد الرجل: إلا بورسعيد.. أى زيارة أخرى يمكن تأجيلها، أما الموعد مع بورسعيد فلا يمكن التخلى عنه. وعندما ذهب عبد الناصر فى الموعد، كان العقاب الذى تلقاه فور وصوله هو من كثافة التعزيزات الأمنية هذه المرة!! وكان القرار الفورى أن تعود الأمور إلى طبيعتها. ونزل الرجل فى عربته المكشوفة وسط الناس، احتضنت الجماهير قائدها، واحتضنت الدولة زهرة مدائنها.. تضمد الجراح وتحل المشكلات وتحاسب المسؤولين عن الخطأ. كانت هناك دولة تعرف مسؤولياتها، وكان هناك وطن يحتضن كل أبنائه، وكان هناك جمال عبد الناصر.. اليوم يجتاح نهر الدم مدينتى، والوطن كله يحترق، والدولة يحكمها الفراغ.. الفراغ ولا شىء آخر!!