كتب محمود درويش يطلب من الحياة: «سيرى ببطء يا حياة لكى أراكِ بكامل النقصان حولى كم نسيتك فى خضَمِّك باحثا عنى وعنك وكلما أدركت سرًّا منك قلتِ بقسوة ما أجهلك» وأنا مثله أطلب من الحياة أن تسير ببطء وأنا مثله كلما أدركت سرا منها قالت لى بقسوة ما أجهلك.. ولحظات مواجهة الجهل هى بالفعل أقسى لحظات العام الماضى. فى كنيسة القديسين بالإسكندرية ركن مخصص لشهداء 2011، صورهم وأسماؤهم على الحائط الأيمن. وصليب خشبى كبير مكتوب عليه بالطول عبارة «يا رب لا تقم لهم هذه الخطية» معلق على الحائط الآخر، عرض الصليب يضم ملاءة عليها دماء شهداء تفجير يناير 2011. عندما قرأت الكلمات المكتوبة على الصليب لم أفهمها، سألت إحدى صديقاتى عن معناها فشرحت لى معنى أن يطلب المقتول من الله أن يغفر خطيئة قاتله. شعرت أن المعنى بعيد عنى جدا. التسامح أصبح بعيدا، لم أعد متسامحة. التسامح بكل معانيه فقدته.. حتى إننى أصبحت متعصبة. لحظة اكتشاف ضياع الروح المتسامحة أيضا قاسية. بعد مرور عامين على بداية الثوره أرى أسوارا يزداد عددها تقطع الشوارع وتوقفها وتفصلها وتمنعنى من المرور.. وأرى أحلاما تصارع الموت وتتشبث بالبقاء، وتنجح وتكبر وتزداد، وتعبر الأسوار. أحاول أن أتشبث بالأحلام، لكن يداى ضعيفتان، كانتا كذلك، وازداد ضعفهما بمرور الأيام. سقطت العام الماضى على رصيف الشارع، تصورت وقتها أن الإصابة دمرت قدمى ولم أهتم بما أصاب يدى، بمرور الوقت شُفيت قدمى وتفاقمت إصابة يدى حتى أصبحت عاجزة عن التشبث بأى شىء. كيف إذن سأتمكن من عبور الأسوار. أنتظر الآن أن ينجح الشباب فى إزالة الأسوار وأن يفتحوا طريقا لروحى كى تعبر وتستعيد قدرتها على التسامح، ولعقلى فيتمكن من اكتشاف أسرار الحياة الجديدة. بعد مرور عامين على بداية الثوره فقدت القدرة على الاستمتاع بأشياء كثيرة على رأسها السير فى شوارع وسط المدينة. أتذكر واحدا من المشاهد الجميلة التى تكررت خلال الثمانية عشر يوما، وهو مشهد الطوابير الطويلة الزجزاجية أمام محل يبيع الكشرى فى شارع طلعت حرب، كانت هذه الطوابير -التى تشبه تلك الطوابير التى تصطف فى أرقى دول العالم للحصول على تذكرة مسرح- تقول من دون كلمات إن شعبنا مسك النور بإيديه. يدى ضعيفة ويد الشعب قوية، فتشبث يا شعب، تشبث وحياة أحلام الشهداء. وامسك فى حلمك بيديك القويتين واقفز فوق الأسوار وخذنى معك نسير فى شوارع وسط المدينة بأمان الأيام الثمانية عشر.