هل يكون الله قد نسينا فى خضم مشاغله الكثيرة؟!..أم أنه كما يقول العم نجيب محفوظ.. «غاب ليضع نقطة الكمال على عمله»؟! تلك القطعية من الأفكار التى لا يمكنها أن تفضى بالبنى آدم منا سوى إلى حارة سد كانت هى مأساة الأب «ياناروس» - بطل رواية «نيكوس كازانتزاكس» التى عشت معها على مدار اليومين اللى فاتوا «الإخوة الأعداء» (ترجمة.. إسماعيل المهدوى) – والذى قادته تجربته العملية إلى إكتشاف حقيقة أن ثلاث أرباع رجال الدين (أى دين) ما هم فى الأساس سوى تجار دين متخمين ومترفين لا يعنيهم الله فى حد ذاته بقدر ما يعنيهم كم يمكنهم أن يحصدوا من وراء التشدق بإسمه.. ولأن هؤلاء مع الرايجة.. لذلك ليست لديهم أدنى مشكلة تخص أى شىء له علاقة بالمباديء أو بالمثل العليا.. وهنا تصبح المشكلة خاصة بالأب ياناروس ومن هم على شاكلته من رجال الدين اللى بجد.. فالحرب الأهلية تطوق عنق اليونان وتطوق بالتالى عنق قريته «كاستلوس» بينما تطوق عنقه مسؤوليته كرجل دين ينبغى عليه أن يمنع إراقة دم أى يونانى على يد أى يونانى آخر.. خاصةً بعد أن انقسمت اليونان إلى معسكرين.. المتمردين الشيوعيين (ذوى البيرية الأحمر) ومؤيدى الدولة الذين تحصنوا بالقرى (ذوى البيرية الأسود).. يقول كازانتزاكس... «كانت الأجسام تتشابك وتلتصق.. والإخوة يذبح بعضهم بعضاً فى نهم شديد.. حتى النساء كن يبرزن من الأفنية الصغيرة أو يصعدن إلى الشرفات.. رؤوسهن عارية وشعرهن منفوش ليُثرن ثائرة الرجال.. بل حتى الكلاب كانت تنبح فى أعقاب أصحابها تطلب نصيبها من القنص.. وكان الليل يهبط آخر الأمر فيبتلع المتقاتلين جميعاً.. واحد فقط من بينهم ظل بلا سلاح.. يفتح ذراعيه مستيئساً دون جدوى.. قسيس القرية الأب ياناروس.. كان ينظر أحياناً إلى اليمين وأحياناً إلى اليسار ولا يستطيع أن يتخذ جانباً من الجانبين.. فيقف وحده يتساءل فى قلق وحيرة: لو أن المسيح عاد.. فى أى جانب كان سيقف؟! هل مع السود؟! هل مع الحُمر؟!.. أم كان سيبقى فى الوسط يصيح وذراعاه مفتوحتان: أيها الإخوة.. أحبوا بعضكم بعضاً.. أيها الإخوة.. أحبوا بعضكم بعضاً! هكذا كان يصيح الأب ياناروس وذراعاه مفتوحتان.. إلا أن أحداً لم يكن ليستمع إليه.. وكان السود والحمر معاً يصبون عليه الشتائم.. • يا خائن يا بلشفى! • يا غراب يا فاشستى! وإذ ذاك كان الأب ياناروس ينصرف مهموماً يهز رأسه الكبير قائلاً: الشكر لك يا رب.. أنت وضعتنى فى أقسى تجربة.. فأنا أحبهم جميعاً وما من أحد يحبنى.. لكن يا إلهى لا تشد الحبل أكثر مما احتمل.. فأنا إنسان.. لست ملاكاً ولا حيواناً.. لست سوى إنسان.. تُرى كم من الوقت سوف تبقى لى القوة لأتماسك.. ربما فى يوم من الأيام أنكسر.. أنا أقول هذا لأنك – سبحانك.. سامحنى يا رب – قد تنسى هذا الأمر فى بعض الأحيان.. فتطلب من الإنسان أكثر مما تطلب من ملائكتك»! ومع استمرار القتال والحرب يفقد الأب ياناروس قدرته على التحكم فى أعصابه أثناء سيره وسط أزقة القرية الضيقه المثيرة للغثيان بما تحمله حوائطها وأبوابها من آثار طلقات الرصاص والبقع الملطخة بالدم.. فينظر إلى أعلى وهو يصرخ: «أنظر.. أنظر وانزل من السماء.. فما جدوى وجودك هناك فى الأعالى؟!.. إنه ها هنا نحتاج إليك أيها الرب على الأرض.. إذا استمرت الحرب فترة أخرى.. سيبتلع كل الناس بعضهم بعضاً.. لم يبق فينا يا رب أثر للإنسانية.. وجوهنا أصبحت متوحشة.. الحرب جعلتنا وحوشاً «.. يصمت قليلاً قبل أن يسترسل: « فى هذا العالم لا يمكن أن تكون إلا واحداً من اثنين.. حملاً أو ذئباً.. الحملان تؤكل والذئاب تأكل.. أفلا يوجد يا إلهى حيوان ثالث يكون قوياً وطيباً فى نفس الوقت «؟!.. ومن أعماق نفسه إرتفع صوت يجيبه: «يوجد يا أب ياناروس.. فاصبر.. مضت آلاف السنين على هذا الحيوان وهو يتطور ليصبح إنساناً.. إلا أنه لم يصل إلى ذلك بعد»! هل نكتشف ذات يوم بالفعل أننا لم نصبح بشراً بعد؟!.. وأن من نطلق عليهم لفظة بشر كائنات أخرى مستقبلية لا تشبهنا فى شىء وأننا لا نمثل بالنسبة لهم أكثر مما تمثله القِرَدَة بالنسبة لنا؟!