مرثية الرجل الذي وسع جهله السموات والأرض أيها النيلُ أيها النيل النائم في حضن حبيبته ماذا تريد من السيد عمر مكرم أريده أن يمشي وراء ذلك الصبي ذي الشعر الأسود أن يجلس إلي جواره ويكتبا معا الأغاني النحاسية أريده أن يستولي علي الأزهار المتوحشة وعلي جبين القمر وعلي عينيه ويعرض رسومه المنقوشة فوق جلد الليل وإذا صادفه الرجل القادم من مقدونيا انطلق مثل سرب حمام ولم يستسلم لبشاشته وتركه وصعد إلي رأس مقبرة ونادي: أيها الناس، أيها الناس لن أخطئ ثانية فاحشتي أنني تركت يدي تنام في يد العسكريين ولم أفكر أن أسلحتي أقوي من سلاحهم فأنا الذي أجعل الغابات أكثر خصوبة وأجعل الجسد مثل الشمس الصافية الصاعدة إلي أعلي أنا الذي أنتصر علي قاذفات القنابل وعلي الحسد وأستسلم أمام حبيبتي أستطيع التسلل إلي سريرها ولعق ركبتيها وإقناعها بنسيان الرجلين اللذين سبقاني فاحشتي أنني تركت الله في المسجد وتركت الشعب في الميدان وتركت نفسي خارج نفسي وجلست في الثكنات آكل العصيدة وأشرب الرمان السائل وأستمع إلي أزيز المدافع وأنفاس الطاعة وأشم رائحة البارود لن أخطئ ثانية إنني كنت أفتح مقبرتي كل ليلة وأخرج لأطمئن علي أحفادي رأيتكم قرب الحافة لا تقفون ولا تجلسون لا تنامون ولا تستيقظون لا تحلمون ولا تيأسون من غياب الأحلام رأيت سيدكم كأنه الإبريق الذي لا يتسع إلا لنفسه ولا يصب الماء لغيره رأيت سيدكم كأنه البهو الواسع الخالي من الآخرين بحثت عن جناحين لأضرب الهواء ومنقار لأضرب الفخ وشمس لأحرسها بحثت عن كتاب مفتوح وامرأة مطوية امرأة مثل شرق المتوسط بين فخذيها نيران الوحشة وأنوار الأنس سألت عن الشيوخ الذين كنت أعرفهم قالوا لي: دخلوا علي مولاهم وأعطوه ألسنتهم وخرجوا ولما غضب مولاهم لأنهم مازالوا يشيرون بأيديهم قالوا لي: دخلوا علي مولاهم وأعطوه أيديهم وخرجوا ولما غضب مولاهم لأنهم مازالوا يحركون أعناقهم في الاتجاهات الأخري قالوا لي: دخلوا علي مولاهم وأعطوه أعناقهم وعيونهم وفروجهم وأرجلهم وخرجوا أيها النيل أيها النيل النائم في حضن حبيبته ماذا تريد من السيد عمر مكرم أريده أن يخرج من مسجده في الميدان وأن يقف علي المنصة وأن يمسح بيده علي رؤوسنا جميعا آملين أن يزيل العار والقرحة العار وأوسمة الجنرالات المتلألئة العار الذي يطير كالخطاطيف لأن الوطن كان نجمتنا والطاغية حبسها في قصره ولأن أرواحنا كانت جيادنا البيضاء والرمادية والطاغية سرقها منا ولأن الله اختبرنا بجهل الطاغية فخضعنا لجهله الذي آويناه الذي عشقناه الذي ربيناه الذي جلسنا حوله كأننا الرجال والنساء الجوف كأن رؤوسنا المحنية هي ثماره التي قطفها وكأن أجسامنا الباردة هي ماشيته أيها النيل ماذا تريد من السيد عمر مكرم أريده أن يسبقنا إلي الشاطئ البعيد أن يزيح البحر إلي آخره إلي آخره أن يعتلي السحب أن يغني كل الآيات والأسفار والمزامير أن يتسكع بيننا أن يرشدنا إلي الدهاليز والمحميات والأماكن السرية أن يدق فجأة علي طبوله فنصرخ يدق فجأة علي طبوله فنصطف صفا واحدا نصطف صفين نصطف ثلاثة ونخطف الطاغية ونقشره وننظفه ونطبخه ونحوله إلي تراب ثم نحول التراب إلي مضغة ثم إلي علقة ثم إلي بذور والبذور ندفنها في الأرض فتصبح أشجارا يجلس تحتها الأحرار والمنفيون، والرفاق والإخوة، واليتامي وأبناء السبيل، تجلس تحتها ناريمان وبولا، وعلي خرير المياه، قرب الحاجز الواطئ بين الحياة والموت، وتحت نور الفانوس الذي هو أيضا يرتعش، يقف أبي، وتقف أمي، وتقف هدي وشيرين هللويا هللويا. مرثية المرأة التي كان اسمها سوزان أيها النيل أيها النيل النائم في حضن حبيبته ماذا تريد من شجرة الدر أريدها أن تهبط فجأة من سحابة بيضاء وأن تغني أغنية الموت بصوت مبلول وأن تجلس علي شرفة أو في كافيتيريا وتطلب من النادل كوبين من الشاي وظلين أسودين لها وللمرأة القادمة وعندما يجف الشاي وعندما تنتهيان عندما تختفي من وجهيهما التجاعيد والماكياج عندما تختفي من عيونهما صور الرجال الغابرين وترفعان رجليهما هكذا هكذا أيها النيل أيها النيل النائم ماذا تريد من السيدة الشجرة أريدها أن تخفي اسم المرأة تحت لسانها أن تغطيه بالريق واللعاب ولا تبوح به لأحد لا تقول إنه سوزان كي لا تلوث فمها حتي الخادمات في الحمام إذا ألححن ضحكت الشجرة في وجوههن وأمرتهن بالبحث عن البنفسج والقرنفل أمرتهن بالبحث عن الجبال والبحار والسهول عن الصيف والشتاء والربيع عن القتلة والرعاة والأغنام والمناجم والإرساليات والحانات والريح القوية وإذا سألتها إحداهن ماذا تعني تلك المرأة لك جلست شجرة الدر علي الأرض وفردت ساقيها وأخذت تغني أغنية الأعراس أو أغنية العواصف لأنها استطاعت أن تدفن تحت الماء الاسم وصاحبة الاسم وأن تحشو بهما فم الموت استطاعت أن تنظف أغنية الحب من الأوشاب التي علقت بها فإذا خرجت شجرة الدر وحيدة سيعرف المارة والشهود سيعرف الصيادون والنجارون والحفارون والمغنون وأصحاب الحاجات ستعرف الحمامة والشمس والعصفور أن المرأة المتروكة تحت الماء المرأة التي هي الهباء والظلام في قلبي والتي هي الهباء والظلام في قلب شيرين، وفي قلب ناريمان والتي هي الهباء والظلام في قلوبكم كان اسمها سوزان وأنها لا تشبه الأفعي ذات الأجراس لا تشبه الخفاش لا تشبه الرصاصة القريبة لا تشبه الرجال الذين كانوا أصابع قدميها وكانوا شعرها المنتوف وأنها جاءتنا من خارج أرواحنا لتمتص أرواحنا أنها رقبة الماضي المصنوعة من الجلد والعظم والحراشف والقشور واللحم الناشف والتي سوف تتشابك أيادينا وأيادي الآخرين فنرفعها مثل لوح محترق وملطخ بالدم ونعلقها علي حبل الغسيل الذي كان دائما قريبا من الشمس ولما تجف، لما تجف كأنها دودة قطن، وتسقط من جديد تحت أرجلنا يدوسها الشعب النازل من سماء وطنه النازل من سحاباتها يدوسها بشغف واستهتار وغل قبل أن يحكي أحدهم لأطفاله عن المرأة التي ليس لها أجنحة كالطير المرأة التي لا تترنح ولا تطأطئ ولا تغرق في النسيان قبل أن يحكي أحدهم لأطفاله عن المرأة التي عندما ابتلعها حيوان الموت انفجرت في روحه وسالت ليراها ذلك الجندي الذي يضغط خده علي بندقيته وهي تتجمع وتصبح عتبة صفراء وقبل أن يأتي الثوار ببشراتهم الفاتحة وشعورهم السوداء ويفتشون عن بقية الجسم يفتشون عن الشعر الذابل والشفتين والفخذين والحوض والكبد والأظافر والبئر الجافة البئر المهجورة لعلهم يريدون أن يطحنوا كل هذه الأعضاء يريدون أن يضعوا الطحين في صندوق أسود فإذا ظهر الطاغية الجديد أخرجوا الصندوق إلي الطرقات فترتج الأرض وتنهمر الدموع وينقر الشعب علي قيثارته أغاني الحب وأغاني الكراهية هللويا هللويا هللويا مرثيّةُ الولدِ الذي نام في فراشِ أبيه إلي غ. ق . أيها الفرات أيها الفرات المغسولُ مثل إلهٍ مريض ما زالت السماء هائمةً فوق هضبة الجولان والشمسُ مثل سكيّرٍ وحافة بردي مثل حافةٍ كأسٍ مقلوبة والنساء الجميلات مثل الآنية المكسورةِ والطاغية بأصابعه العشرة وعنقه المائل ويديه المدرّبتين مازال يرصّ أجساد الموتي بعضها فوق بعض ليقف فوقها ويرفع صوته كأنه يحارب الله كل يوم كأنه يريد أن يحتلّ أرضه يريد أن يحتل سماءه ثم يريد أن يقتله أيها الفراتُ أيها الفراتُ المغسول مثل إلهٍ مريض كلنا نعرف أن الله هو صاحب الحديقة وصاحب الحانة وصاحب النهر وصاحب الفانوس والساقية وصاحب الأغنيات وأنه الراعي الصالح الذي لا يموت الطاغية وحده الطاغية وحده لا يصدّق ذلك حتي أنه لمّا أرتفعت تحت قدميه أجساد الموتي حتي أنه لما اقترب رأسه من سحابة الله ومن حذائه ومن سرواله الأبيض حاول أن يتجاسر وينزعها بيده ولمّا لم يقدر حاول أن يلوّثها بلعابه الناشف كان هذا هو اليوم الأول للحرب الفعلية بينهما ألله يخلع خوذته والطاغية يضيع الله يقرأ والطاغية يفرّ من محظيّاته ألله يسهر الليل كله والطاغية يتغطّي بالكوابيس في اليوم الأول فقد الطاغية ذراعيه وفي اليوم التالي فقد شعره وحاجبيه ورموشه وفي اليوم الثالث فقد العينين والأذنين وفقد الأنف وفي اليوم الرابع فقد فمه ولسانه وعنقه وحافة صدره هكذا هكذا حتي اليوم السابع وطالت الحرب كان حبل العداوة يمتدّ يمتدّ إلي آخره لأن السماء تقف في مكانها والطاغية يقترب من خطوط زواله ومن أسلاك الحراسة ومن الخنادق الطاغية يتدرّبُ علي الفقدان لم يعد قادراً علي تقليب كتاب أبيه وكتاب أمه وكتاب الحسبة والمواريث كانت أعضاء الطاغية تتلاشي آخر إصبعٍ من قدمه اليسري سرقه الدركيّ فتفاءلت زوجته ودفنت الإصبع تحت صخرة علي الحدود جسم الطاغية صار فراغاً طويلاً محدودباً جسم الطاغية صار نافذة فراغٍ لم يبق َ فيها إلا ظله أيها الفرات أيها الفرات المغسول مثل إله مريض الظل أبيض وله قنزعة الظل أبيض وله شوكة في عنقه الظل أبيض ويستولي علي فضاء لا يستحقه الظل أبيض مثل رجلٍ مهجورٍ يغتاب نفسه ثم يفكر أن يحارب ألله بأقوي الأسلحة ويستخدم الروائح النتنة المنبعثة من تحت سريره ويهدّد بأن يترك جيفته علي الأرض لولا أنه لم يستطع أن يتقبّل ملامح ألله مطبوعة علي كل أفراد شعبه لم يستطع أن يتقبّل ملامح كل أفراد شعبه مطبوعة علي وجه ألله ومثل ثورٍ مغدور مثل زرافةٍ مغدورة مثل الأكاذيب والأسرار يسأله خازنُه هل الشعب هو ألله يا سيّدي يا سيدي يا سيدي هل الشعب هو ألله فيصرخ بكل اللهجات وفي آذان كل المدن وعلي مرأي من كل الأودية والماعز الجبلي واللقالق يصرخ في أعماقه وفي أعماق الليل وفي أعماق البرك والمستنقعات يصرخ حتي في أعماق التابوت الجاهز لاستقباله منذ ولدته أمه الجاهز لاستقباله منذ وقف علي باب الهيكل يصرخ كأنه إنسان كأنه الحشرة المقلوبة كأنه النيجاتيف المبلول جداً وينكفئ علي وجهه ثم يموتُ هللويا هللويا .