بعدما انطلقت فى المقال السابق من وجود ثلاث ركائز أساسية للسياسة «الصهيوأمريكية» فى مصر أو ما يحلو للبعض أن يدعوه بالمؤامرة «الصهيوأمريكية»: هى دعم المشروع الصهيونى، والسيطرة على مقدرات اقتصاد مصر، وتدفق النفط، الذى أصبح الغطاء الجديد للعملة الأمريكية بعد تحررها من غطاء الذهب، واستبدال الذهب العربى الأسود به. وكشفت للقراء كيف أن حكم الإخوان المسلمين على قصر مدته قد استطاع أن يقدم أوراق اعتماده للعدو الصهيونى فى ثلاثة إجراءات كبيرة ومتتالية، ويطمئنه على أنه سيقوم إزاءه، وفى سيناء خاصة التى تتعرض لخطر داهم، بما كان يقوم به ذخره الاستراتيجى، أى نظام مبارك المخلوع. ثم جاء بعد نشر مقالى ذاك تدعيم رابع لما ذكرته، بتصريح عصام العريان الأرعن، ودعوته لعودة يهود مصر. ولم تكن مصادفة أن يجىء هذا التصريح عقب عودته هو من رحلة تطمين أمريكية، إبان أزمة تمرير الإخوان بالبلطجة والإرهاب السياسى لدستورهم الباطل والذى صوّت له أقل من 20% من الناخبين، وإرسالهم لوفد من قياداتهم، بقيادة عصام آخر هو عصام الحداد، للتفاوض مع مسؤولى الأمن القومى واستجداء المباركة الأمريكية له. بعد تسليم الإخوان الكامل بالركيزة الأولى للسياسة «الصهيوأمريكية» فى المنطقة، ولحسهم لكل ما سبق لهم أن تشدقوا به حول العداء للصهيونية التى تواصل ابتزازهم للتكفير عن خطابهم القديم «خيبر خيبر يا يهود.. جيش محمد سوف يعود»، وعن معارضتهم لاتفاقية كامب ديفيد التى وقع مرسى على هامشها مؤخرا. وما تصريح العريان الأرعن إلا آخر فصول الاستجابة إلى هذا الابتزاز، ولن يكون آخرها. سأتناول هنا طبيعة سياسات الإخوان الاقتصادية وموقفها من الركيزة الثانية وهى الاقتصاد، بالصورة التى تؤكد ضلوعهم فى المؤامرة «الصهيوأمريكية» على مصر. فلم يكشف الإخوان عن أى توجه اقتصادى مغاير لذلك الذى انتهجه نظام مبارك المخلوع، وأدى إلى تفاقم السخط عليه وتنامى الفقر والبطالة وانسداد الأفق أمام الشباب، والثورة ضده فى نهاية المطاف. كما أن أهم ملامح الاقتصاد الذى يسعون لتطبيقه فى مصر هى نفسها تلك التى قام عليها اقتصاد نظام مبارك المخلوع، والذى أدى إلى استشراء الفساد فى كل موقع، وازدياد معدلات النهب وتحويل ثروات مصر للخارج. وأهم من هذا كله الإبقاء على الاقتصاد المصرى تابعا، والحيلولة دون حدوث أى تنمية اقتصادية حقيقية، تكفل لمصر العودة للعب دورها الجديرة به. ذلك لأن أهداف السياسة «الصهيوأمريكية» تعتمد على إبقاء الاقتصاد المصرى فى حظيرة التبعية لعدة أسباب: أولها ضرورة أن يبقى اقتصاد مصر نموذجا لما تريد لاقتصاديات المنطقة برمتها. لأن مصر هى النموذج الذى يلعب دورا أساسيا فيها. وثانيها ضرورة تبعية هذا الاقتصاد للمركز، من خلال أمراس القيود المتينة، والتى تتيح تدفق منهوباته للغرب، دون تحقيق تنمية حقيقية تمكنها من الاستقلال الاقتصادى، وهو عماد أى استقلال سياسى. وثالثها الحيلولة دون تحقيق نمو حقيقى فى مصر يؤهلها للنهوض لأن أى نهوض لها يشكل خطرا على العدو الصهيونى، ركيزة السياسة «الصهيوأمريكية» الأولى. ورابعها يتعلق بضرورة أن تبقى مصر ضمن النظام العالمى الأوسع فى الهامش الذى أبقته فيها سياسات السادات ومبارك الرعناء، وألا تتيح لها العودة من جديد إلى دور اللاعب الوسيط بين المركز والهامش الذى كانت عليه من قبل، والذى تلعبه الآن بلدان ما يسمى بمجموعة البركس BRICS الخمسة: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا. لأن تحركها صوب هذا المكان سيعزز قدرتها على الاستقلال، وبالتالى على لعب دور مغاير قد يزعزع أركان السياسة «الصهيوأمريكية» فى المنطقة. وحتى أبين للقارئ حقيقة ما أعنيه، والدلالات الخطيرة لإبقاء مصر فى دائرة القروض الجهنمية علينا الإشارة العابرة، إلى واحد من أهم الأعمال الفكرية فى نصف القرن الأخير. وأعنى بذلك كتاب إيمانيويل واليرشتاين الضخم (نظام العالم الحديث The Modern World-System) والذى يقع فى أربعة مجلدات. وقبل الحديث عن هذا المشروع لا بد من الإشارة إلى أن واليرشتاين قد نشر أكثر من عمل مع المفكر المصرى الكبير سمير أمين، كما أنه استفاد من كثير من استقصاءاته فى سفره الكبير ذاك من أعماله التى يمكن أن تساعدنا فى الخروج من أزمتنا الاقتصادية والسياسية الراهنة. ويسعى هذا السفر الذى يمتزج فيه التاريخ بالاقتصاد بالعلوم الاجتماعية إلى تقديم أشمل دراسة للعالم منذ بداية التحديث وحتى تخلق العولمة وتطورها وسيطرتها عليه. وكيف أن عملية تطور العالم الحديث قد أدت لاتساع الفجوة بين الشمال والجنوب وبروز هيمنة الولاياتالمتحدة وتعاظم دور الرأسمالية المتوحشة على حساب بقية العناصر الصانعة للقيمة، وإلى جنايته المتنامية على بقية سكان العالم. ويقدم والرشتاين فى سفره الضخم أطروحته التى يطلق عليها نظرية نظام العالم World-systems theory وتنهض على أن نظام العالم الحديث، يتميز عن النظام الاستعمارى القديم بأنه نظام واحد كامل وشديد الترابط. نظام تتحكم فيه مجموعة متراكبة ومعقدة من أدوات التحكم وعلاقات التبادل الاقتصادية والسياسية والثقافية جميعا. نظام قائم على مركز وهوامش: مركز ينهض بدور التحكم الاقتصادى، وهيمنة رأس المال العالمية الكبرى سياسيا واقتصاديا على المناطق الهامشية أو شبه الهامشية فى هذا النظام، والتى تسعى حركية النظام الداخلية إلى إبقائها على حالها، لأنه أمر يحقق توازن النظام الداخلى. ومن خصائص هذا النظام الواحد تسليع كل شىء، بما فى ذلك قوة العمل والإنسان بالضرورة، وتوسيع رقعة السوق وتعزيز سطوة هيمنته كى تكسب قوانينه فاعلية أكبر. فى هذا النظام يصبح من صالح النظام لا أن يحافظ على نفسه فقط، حيث تتحكم مراكزه فى كل شىء، وتسعى دوما إلى إخضاع هوامشه، لكن أيضا أن يعيد إنتاج نفسه فى الهوامش نفسها. بالصورة التى تتسع فيها الفجوة بين الأغنياء والفقراء حتى فى أكثر بلدان العالم فقرا. لأنه دون إعادة الإنتاج تلك لا يتسنى للمركز فى النظام الأكبر أن ينزح ثروات الهوامش، وأن يبقيها فى الوقت نفسه رازحة تحت وطأة هامشيتها. ولذلك يعادى هذا النظام العالمى أى حديث عن العدالة الاجتماعية أو التوزيع العادل للناتج القومى. لأن هذا الأمر يصطدم مباشرة بآليات نهب ثروات الهامش، ونزحها إلى المركز كى يظل المركز مزدهرا رغم أزماته الكثيرة. لذلك ترتبط عمليات الإقراض، وفى مقدمتها قرض صندوق النقد الدولى الذى تسعى حكومة قنديل جاهدة لإبرامه، بفرض الشروط التى تبقى على الاقتصاد المصرى تابعا، وتحول دون أن يقوم بأى تنمية حقيقية تمكنه من تحقيق استقلاله. فلا يشترط صندوق النقد مثلا إنفاق القرض فى مشاريع تخفض نسبة البطالة، أو تعزز معدلات النمو الاقتصادى. وإنما يشترط رفع الدعم، بالصورة التى يزداد معها التضخم، فيحكم الخناق على الفقراء كى يزدادوا فقرا. ويتيح فى الوقت نفسه الفرصة لشره الفئة الثرية القليلة، ومعها المستثمرون الأجانب بالطبع، كى تزداد غنى، وتبعث بفوائض منهوباتها إلى خزائن الغرب، وتدعم دوران آلته الاقتصادية وتعزز الاستثمار فيها، دون أن يتحولوا إلى شريك حقيقى فى آلة المركز الجبارة، لأنها لا تقدم لهم غير التأمين الوهمى لمسروقاتهم. ولذلك كان طبيعيا أن يتراجع الصندوق فى التصديق على القرض الكارثى، حتى تطبق قرارات رفع الأسعار التى جمدها محمد مرسى عقب نشرها فى الجريدة الرسمية قبيل الاستفتاء على الدستور. وأن يبدأ رفع الدعم، لا برفعه عن الصهاينة الذين يتلقون أربعة مليارات منه لدعم الصادرات بسبب اتفاقية الكويز، أو عن كبار الأثرياء المصريين منهم والأجانب والذين يبلغ دعم الطاقة لمصانعهم أكثر من 75 مليارا، وإنما عن الفقراء الذين لا يزيد دعم ما يستهلكونه من طاقة على 20 مليارا، ودعم خبزهم وموادهم التموينية عن 20 مليارا أخرى. أى أن قرارات الإخوان الكارثية تبدأ برفع 40 مليارا من الدعم عن الفقراء والطبقة الوسطى، بينما لا تمد يدها إلى ما يقرب من 80 مليارا من الدعم الذى يذهب للأثرياء والأجانب والصهاينة. إن سياسة الإخوان الاقتصادية، سواء فى ما يتعلق بالشره إلى الاقتراض، من صندوق النقد الدولى 4،8 مليار والبنك الأوروبى 6،4 مليار، والاقتراض أداة أساسية من أدوات سيطرة هذا النظام العالمى على الهوامش. أو بالصكوك الإسلامية المشبوهة التى ستفتح بابا جهنميا للنهب والتبعية وبيع مصر، سيصبح معه ما فعله نظام مبارك من خصخصة القطاع العام لعبة بالمقارنة لما سيدور. هذه السياسات الاقتصادية لن تحقق أى رخاء لمصر، ولن تتيح أى فرصة لتحقيق أى نوع من العدالة الاجتماعية. ولكنها ستضيف المزيد من قيود التبعية الاقتصادية الخانقة، وستبقى مصر فى حظيرة التهميش والهوان «الصهيوأمريكية»، بدلا من البحث عن سياسات بديلة تؤدى لتحرر الاقتصاد المصرى، تمهيدا لتحرير السياسة المصرية نفسها من استعمار إرادتها من أجل استرداد استقلالها المفقود. يعتمد على الفساد وييسر نزح كل فائض ممكن للثروة من مصر إلى حواضر النظام الكبرى، حيث يشعر الأثرياء وناهبو المال العم فيها بالأمان، وهو وهم لو يعرفون، أكثر مما يشعرون به فى بلادهم. وهذا هو السر فى أن إيداعات الطبقة الغنية فى مصر فى بنوك الغرب (أى المركز) هى ستة أضعاف ديون مصر. لأن الديون ليست فى جانب من جوانبها إلا الخميرة التى تستقطب هذه الثروات وتنزحها كى تبقى على نظام رأس المال المالى الغربى مزدهرا. الهدف الأساسى للتبعية الاقتصادية ليس توفير نزح الثروات فى نظام والريستين فحسب، إنما الإبقاء على مصر بلا تنمية، كتى يتم تآكل كل منجزاتها الحضارية التى وضعتها على طريق التقدم، من تحرير المرأة والارتداد لتحجيبها، إلى اكتساب العقلانية، ورأس مال رمزى رائد بدلا من الارتداد للخرافة وفتاوى شرب بول الرسول وإرضاع الكبير، إلى الهجمة الشرسة على الطبقة الوسطى، مستودع القيم الحضارية والأخلاقية.