كان يحيى خليل ليل الخميس الماضى مختلفا، قاعة الأوبرا الصغيرة كعادتها «كاچول» ومتألقة. الجمهور بدا متعطشا متلهفا على الإمساك بساعة من الموسيقى ملقيا خلف ظهره أو بمعنى أصح غافلا عن «وباء التوتر»، الذى انقض على المصريين انقضاض وحش جائع على فريسة سمينة، لكن يحيى خليل لم يكن هو ذلك الطفل الشقى الذى يلعب بآلة الدرامز ويمزج الغرب والشرق فى أنغام وألحان رائعة، ويفك طلسم مقولة شهيرة قديمة «الشرق شرق والغرب غرب ولا يمكن أن يجتمعا». فى ليلة الخميس الماضى كان يحيى خليل طفلا متألما للغاية، يعزف شجنا وغضبا ومتمردا على حال وطنه وتكاد دموعه تنزّ من موسيقاه وتنساب من أعصابه العازفة مع النغمات، ولم يخلُ النغم الداعم من المتعة، فكما قال الفلاسفة «المتعة قرينة العذاب دوما»! وفعلا كانت «مزيكته» خليطا من الفن المجرد والتحريض على حب الوطن والتضحية من أجله، فالموسيقى فى أصلها أصوات مجردة: حزنا وسعادة، صخبا وهدوء، تمردا واستسلاما، غضبا واسترخاء، نصرا وهزيمة، حبا وكرها، قربا وبعدا، شوقا ونسيانا، ولعا وهجرا، ترحالا ومكوثا، حياة وموتا. أصوات تخاطب وجدان الإنسان، فيترجمها إلى ما يشاء من معانٍ تخصه، تحمل على نغماتها مشاعره وتفيض بما يكمن فى نفسه. فكيف عبرت تلك الموسيقى عن أحزان وطن هو فى محنة فعلا و«محاصر» فى أضيق ممر يصعب أن يعبره دون أثمان باهظة؟ما عزفه يحيى خليل وفرقته ليلة الخميس يكاد يكون تجسيدا حيا وعبقريا للأسباب الدافعة لموسيقى الجاز، فالمصريون يكادون أن يكونوا على نفس الأحوال السيئة التى كان عليها مبدعو هذه الموسيقى الشجية الساحرة المترعة بالحزن، المملوءة بالغضب، الدافعة إلى التمرد، الرافضة للواقع! موسيقى الجاز خرجت إلى النور فى ولاية من ولايات العبودية فى الجنوب الأمريكى هى نيو أورليانز، فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، على أيدى الأمريكيين الأفارقة، كانوا قد تحرروا من العبودية فى حرب أهلية شهيرة، لكن السادة فى الجنوب ومنها نيو أورليانز لم يعترفوا بإلغاء الرق، وفرضوا تفرقة عنصرية رهيبة، ونيو أورليانز مشهورة بعلب الليل وصالات الرقص الأوروبى مثل الفالس والبولكا، فخلط الموسيقيون «الزنوج» الموسيقى الأوروبية رويدا رويدا بالإيقاعات والألحان التى احتفظ بها الزنوج وتوارثوها جيلا بعد جيل، لأنهم كانوا يرددونها فى أثناء العمل فى حقول القطن وفى أثناء سمرهم فى ميدان الكونجو، كما أخذ الزنوج يستعيدون هذه الإيقاعات من خلال صنع الطبول الضخمة التى تسمى تام تام أو بامبولاس. وامتزجت تلك الألحان الإفريقية أيضا بالألحان التى تعلموها فى الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية مع صرخات عذاب العبودية وتعبيرات روحهم المكتئبة. والمصريون تحرروا من نظام فاسد استبدادى بثورة عظيمة، لكن الواقع بعدها لم يعترف بهذه الثورة، فاستغلت التيارات الأكثر تنظيما ذلك فى نهب الثورة، ويحاولون الآن سرقة مصر نفسها وتحويل المصريين إلى رعايا يسمعونهم ويطيعونهم.. لكن المصريين لا يستسلمون ويخوضون الآن حركة نضال عظيمة لمنع مصر من السقوط فى براثن العتمة والقبح والتخلف، كالحركة التى فجرتها الحقوق المدنية بقيادة مارتن لوثر كنج من مدينة شيكاغو الأمريكية فى الستينيات من القرن العشرين. وشيكاغو نفسها انتقلت إليها زعامة موسيقى الجاز تماما بعد الحرب العالمية الثانية. وشيكاغو هى التى تعلم فيها يحيى خليل نفسه موسيقى الجاز، وتابع منها حركة مارتن لوثر كنج التى فكت السود من أسر العنصرية حتى وصل أمريكى أسود إلى عرش البيت الأبيض. ولم يكن غريبا على الإطلاق أن يستهل يحيى خليل ليلته بموسيقى جاز محرضة تفسر كلمات رائعة لأحمد فؤاد نجم: بنادى على كل واحد فى مصر.. ندايا لكل بيت مش لقصر، بلادنا فى محنة.. نظامها دابحنا.. لا بد إحنا نصونك يا مصر.. لا بد إحنا نصونك يا مصر. 45 دقيقة من الموسيقى المحضة، مارس فيها يحيى خليل شقاوته المعتادة، شقاوة مغطاة بحزن دفين وألم. لكنها لا تخلو من حلم (بحلم وفى الحلم راحة.. بحلم بعالم غريب، بحلم ومش لاقى راحة لا من القريب ولا من الغريب)، والكلمات للشاعر عبد الرحيم منصور.. وقطعا لن نتوقف عن الحلم. 45 دقيقة الوصلة الأولى من عزف يحيى خليل وفرقته الساحرة أخذت الحضور خارج ذواتهم الضيقة وذابوا عشقا فى الوطن الواسع، أعادت إليهم قوة الثورة والنضال والإرادة فى تغيير الواقع التعس إلى المستقبل الحلم، وكان الجمهور الذى غطى ثلثى مقاعد القاعة والرقم نفسه مذهلا فى وقت شديد التوتر والقلق، ويثبت أن المصريين مقبلون على الحياة بقوة ولن يكسرهم طيور الظلام، حتى لو غطوا سماء الوطن لفترة مثل السحابة السوداء التى ظللتهم سنوات، فالمسرح كبير أيضا كان يعج بجمهور الأوبرا البديع. ويبدو أن هذا الجمهور جاء يدافع عن حاضره ضد الماضى الزاحف، عن جمال الحياة ضد القبح الذى يحاول أن يطويها، عن دولة مصر ضد ولاية مصر، جاء ليصرخ بوجوده: «لا» هائلة للوجوه الكالحة. وقد فهم يحيى خليل الرسالة، فخاطب جمهوره بكلمات قليلة مباشرة: «ماحدش حيسرق مننا مصر، ولازم نتلم على بعض، مش لازم نقعد 30 سنة نكافح زى ما عملت حركة الحقوق المدنية السوداء فى أمريكا، مش لازم نصبر كل ده». ثم وجه تحية خاصة للمرأة المصرية التى تقاوم وتتزعم «لا» العظيمة فى وجه من قالوا «نعم» الطيعة المستكينة! ثم عاد إلى موسيقاه وعزفه الشقى يشرح لنا ما يحدث لنا (يعيش أهل بلادى وبينهم مافيش.. تعارف يخلى التحالف يعيش، تعيش كل طايفة من التانية خايفة.. وتنزل ستاير بداير وشيش).. هذه الكلمات الرائعة كتبها أحمد فؤاد نجم منذ أكثر من أربعين سنة عن تحالف قوى الشعب العامل، عبارة سياسية يصف بها حزبا سياسيا واحدا سيطر على مصر هو الاتحاد الاشتراكى، وقطعا لم يتصور أن كلماته قد تمس نسيج مجتمعنا ومكوناته الأساسية التى عاش عليها لأكثر من خمسة آلاف سنة.. لكنه حدث فى زمن الإخوان، وهم لم يحكموا إلا بضعة أشهر فقط. فعلا كانت ليلة رائعة، ساعة ونصف الساعة من الفن ممزوجا بالوطن، من الجاز الشرقى متجاوزا اللحظة التعيسة متلهفا على أمل جديد، ولم ينس خليل كعادته أن يدع مساحة خاصة لكل عضو فى فرقته يعبر عن مواهبه وبراعته الخاصة فى العزف والتواصل مع الجمهور. غادر الجمهور القاعة لكن الموسيقى لم تغادره ولا نسمات التفاؤل التى هبت منها على الأرواح الهائمة الحالمة بوطن عصرى قائم على التعدد والحرية وحقوق الإنسان والتنمية المستدامة، وطن محل للسعادة لكل المصريين وليس غنيمة كسبها البعض فى غزوة! شكرا يحيى خليل وفرقته الرائعة.