يعقد فنان الجاز يحيى خليل حفلا موسيقيا مساء الجمعة المقبل فى المسرح الصغير بدار الأوبرا، هو الأخير فى سلسلة من الحفلات التى أقامها مؤخرا بعد عودته من رحلة علاجية طويلة فى الخارج. حضرت معظم هذه الحفلات واستمتعت بها، ولا أملك سوى أن أدعو محبى الجاز والموسيقى والثورة لحضور هذا الحفل الأخير لسبب مهم، ففى تلك الظروف التعيسة التى نمر بها، والمزاج العام المكتئب، ليس هناك أفضل من موسيقى مفعمة بالحيوية والأمل من فنان طالما أعتبر الفن ثورة، والثورة فن! أعرف يحيى خليل وموسيقاه منذ عشرين عاما أو يزيد. جلسات طويلة جمعتنا فى ذلك الزمن البعيد تناقشنا فيها فى الموسيقى قليلا وفى الشئون العامة كثيرا، وكم من مرة تحدثنا فيها عن الموسيقى والسينما والمجتمع، وعقدنا المقارنات بين التخلف الفنى والسياسى.. حينا نعتبر الأول نتاج الثانى وأحيانا نعتبر الثانى وليد الأول. فى تلك الفترة كنت أكتب زاوية أسبوعية فى مجلة «روزاليوسف» تتضمن تحليلا ونقدا للألبومات الموسيقية الجديدة بالاستعانة بمشاهير الموسيقيين ونقاد الموسيقى، وكثيرا ما كنت أذهب إلى يحيى خليل لنستمع إلى الموسيقى ونتحدث...ومن مازورة مقتبسة أو استخدام غير موفق لآلة موسيقية فى أغنية لا تعبر موسيقاها عن كلماتها، كنا ننتقل غالبا إلى الحديث عن الفن كثقافة ونشاط مجتمعى وعمل سياسى. مع آخرين كانت المناقشة تقتصر على المسائل الفنية التقنية فقط، ولكن اثنين فقط كانت مناقشة الموسيقى معهما تتحول إلى حديث فى الشئون العامة غالبا: عمار الشريعى، ويحيى خليل! طوال هذه السنوات صعد وهبط وصعد نجم يحيى خليل وحضوره فى الساحة الموسيقية فى مصر، ولكنه من القلائل الذين حافظوا على اسمهم ومكانتهم فى قلوب معجبيهم، والذين استطاعوا أن يجذبوا جماهير من الأجيال الجديدة. بشعره الأبيض وملامحه القادمة من عصر قديم مضى، لا يزال يحيى خليل يجذب جماهير من شباب تحت الثلاثين والعشرين يملأون حفلاته، يتمايلون مع ألحانه التى يحفظونها، ويتغنون بالقليل من الكلمات التى يشدو بها بين حين وآخر. من بين هذه الأغانى «بنادى على كل واحد فى مصر» التى كثيرا ما يبدأ بها حفلاته، والمأخوذة عن الشاعر أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام فى توزيع ارتجالى فى قالب «الجاز»... «ومن بينها رباعية «بحلم» للشاعر عبدالرحيم منصور التى تقول كلماتها: «بحلم وفى الحلم رحلة...بحلم فى عالم غريب..بحلم ومش لاقى راحة...من القريب والغريب». يحيى خليل الذى يقترب من السبعين، يبدو بحمالات بنطاله وعصى الدرامز التى يضرب بها على تشكيلة من الطبول والأسطوانات المعدنية المتنوعة التى تشكل هذه الآلة، وشعره الطويل الساقط حتى عينيه، كما لو كان صبياً مراهقاً غادر للتو بيت العائلة فى مصر ليطارد حلم الموسيقى فى أمريكا، ثم يعود ليطارد نفس الحلم فى مصر! يحيى خليل، من بين أسماء وأشياء قليلة أخرى، يذكرنى بحى مصر الجديدة، حيث كنا نجلس فى شرفة شقته التى تقطعها بعض الحبال المعلق فوقها عدد هائل من الفوط البيضاء التى كان، ولا يزال يستخدمها، لتجفيف كميات العرق الهائلة التى تسيل منه أثناء العزف! فى هذه الشرفة المحاطة بمبانى مصر الجديدة – القديمة- يمكنك أن تلمس وتشم وتسمع هذا الحى العريق الذى يمثل فترة من أجمل فترات تاريخ مصر...حين كان المصريون يحلمون ويحققون حلم الحرية والنهضة...قبل أن يسرق الفاشيون هذه الشعارات ويحولونها إلى عكسها! ارتبط اسم يحيى خليل بموسيقى «الجاز»، وهو نوع من الموسيقى الأمريكية التى نشأت وتطورت فى أحياء السود، ثم انتشرت فى أنحاء العالم واتخذت أشكالا مختلفة ومهجنة من الثقافات التى دخلت عليها، ومثل الموسيقيين الكبار لم يكتف خليل بالتعلم والنقل، ولكنه استطاع أن يصيغ ألحانا وتوزيعات مصرية تنتمى لموسيقى «الجاز» روحيا...ولعل أبرز مثال لها هو موسيقى برنامج «حكاوى القهاوي» الذى كانت تقدمه المذيعة اللامعة سامية الأتربى، وهو برنامج يبحر فى حوارى ومقاهى مصر وذاكرتها وهويتها، وقد ارتبطت هذه الذكريات والهوية فى أذهان المشاهدين المستمعين بموسيقى البرنامج التى تبدو وكأنها خرجت من تلك الأماكن، بالرغم من انتمائها إلى «الجاز»! فى حفلاته أيضا هذا المزيج الفريد من «الجاز» والموسيقى المحلية، الفولكلورية أحيانا، والموسيقى الفردية النابعة من رأس وقلب مؤلفها نفسه....بمرور الوقت والسنوات تراجعت المقطوعات الغربية الشهيرة فى حفلاته، وحل محلها المقطوعات الخاصة والتراثية، ولكن من حين لآخر تطل علينا كلاسيكيات «الجاز» المعروفة، كما حدث فى حفله الأخير الذى شاركت فيه مغنية «جاز» أمريكية سوداء شدت بعدد من أجمل الأغنيات الشهيرة. الفن نشاط إنسانى، ومن بين كل أنواع الفنون، فإن الموسيقى هى الفن الذى لا وطن له، ولكن الموسيقى هى نفسها وطن، ومثل سيد درويش وكمال الطويل وعمار الشريعى، يمكنك أن تجد فى موسيقى يحيى خليل مصر التى تسكنك ولا تجدها فى مكان آخر