كثير من العاقلين والمدركين لحقيقة الأمور التى يجب أن توضع فى نصابها الصحيح، مندهشون مما يحدث الآن من محاولة سطو عمدى مع سبق الإصرار والترصد من جانب فصيل سياسى هو «المتأسلمون»، على دستور البلاد بعد ثورة مجيدة دعا إليها شباب مصر الثائر الغاضب المُهدَر كرامته على يد نظام مبارك المجرم والفاسد والمستبد، وأيدها شعب مصر كله بجميع طوائفه. يتصور هؤلاء «المتأسلمون» أن اختطاف الدستور بسرعة يكمل مسيرة الاختطاف للثورة والسلطة فى ظل مؤامرة كبرى وصفقات سياسية أركانها فى الداخل وغطاؤها فى الخارج «عربيا ودوليا». فى نفس الوقت الذى يغيب عنهم فيه أن البيئة السياسية للاختطاف غير ملائمة وأن الأوضاع فى مصر قد تغيرت منذ استفتاء 19 مارس 2011م المشؤوم، وأنه بفعل الزمن ومرور الأشهر المتعاقبة التى تجاوزت عشرين شهرا، انكشفت أهدافهم وترجمها سلوكهم الإقصائى والفاشل وذات الطبيعة الإرهابية للآخرين، بل وعدم الاعتراف بهم، حتى ظهر أن هدفهم الرئيسى بل الوحيد هو «السيطرة والتمكين والاستحواذ»، وليس العمل والإنجاز فى خدمة الشعب. الأمر الذى قاد جماهير الشعب للتراجع عن تأييدهم لتناقض سلوكهم مع وعودهم وشعاراتهم! وهنا يمكن رصد مشهد البيئة السياسية والاقتصادية المصاحب لعملية اختطاف دستور الوطن والثورة ليتبين للجميع أن ذلك من المستحيلات وفقا للمنطق والخبرات السياسية، وذلك فى ما يلى: 1- سقوط شرعية رئيس الدولة د.محمد مرسى بعد تحوله لرئاسة جماعة الإخوان، دون قيامه بواجباته كرئيس للدولة والجميع، وتورطه فى جرائم سياسية وجنائية عديدة نتيجة غيابه العمدى عن قيامه بمهام وظائفه الرئاسية فى خدمة الوطن وجميع طوائف الشعب، الأمر الذى تسبب فى انقسام الشعب وخلق استقطابا حادا بين فريقين، مما يدعو إلى محاكمة هذا الرئيس لسقوط شرعيته. 2- الاستقطاب الحاد فى المجتمع المصرى بفعل قرارات الرئيس مرسى وربطه من جانب فصيل المتأسلمين بأنه يدور حول «الإيمان - الكفر»، «الشريعة الإسلامية وأعدائها»، بينما الحقيقة أن الصراع بين «الاستبداد والديمقراطية»، بين «العدل الاجتماعى والظلم»، بين «القهر والحرية». فالحاكم الذى يصدر إعلانا دستوريا مثلما حدث من مرسى فى 22/11/2012، يتضمن تركيز السلطات كلها فى يده، هو حاكم مستبد ظالم وكاره للحريات، وغير ديمقراطى، ولا يمكن الاطمئنان إليه ولا إلى خطابه السياسى. 3- الرفض الشعبى الواسع للإعلان الدستورى الأول فى 22/11، والإعلان الثانى الذى أكد الأول ولم يُلغِه بل حصّنه، فى 8/12/2012، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الرئيس وجماعته مخطئون فى حق الثورة والشعب الذى قام بها وفى حق الشهداء الذين ضحوا من أجل التغيير للأفضل، بل إنهم كانوا الوجه الآخر لنظام مبارك. 4- الرفض الشعبى الواسع للإصرار الرئاسى على الاستفتاء على الدستور الإخوانى السلفى، فى 15 ديسمبر 2012م، ومحاولة التبرير الساذجة على أيدى ترزية جدد لا يجيدون الصنعة لعدم توافر الحس السياسى، بأن موعد الاستفتاء دستورى وفقا للإعلان الدستورى فى 30/3/2011م، وما تضمنته المادة «60» منه! كأنهم ملتزمون بالنصوص الدستورية والقانونية! إنه لشىء مضحك ولكنه يؤكد إصرارا إخوانيا على اختطاف دستور البلاد بالقوة برداء قانونى منعدم الصلاحية ومنزوع الشرعية سوى شرعية الغاب. إنهم يقامرون على عدم تذكر الشعب المصرى، وينسون أن مرسى هوم الذى انقلب على الشرعية الدستورية فى 11/8/2012 بإلغاء الإعلان الدستورى التكميلى الذى كان يخلق توازنا فى السلطات إلى حين الخرووج من الفترة الانتقالية بسلام، ووقتها كتبتُ مقالا فى هذا المكان بعنوان «الانتقال من الشرعية الدستورية إلى شرعية الغاب» حتى لا يتصور البعض أننا لم نعلن موقفنا إزاء ذلك، كما يتصور وائل قنديل فى عموده بالشروق يوم الخميس 13/12/2012م. 5- رفض القضاة الواسع للإعلان الدستورى الأول فى 22/11، والثانى فى 8/12/2012، ورفضهم المشاركة فى الإشراف على الاستفتاء المحدد له يوم 15/12 وبنسبة 90٪ تقريبا، لم يكن له صدى لدى الرئيس مرسى وجماعته مما ينزع الشرعية عنه، وانتقل إلى خيار تقسيم الاستفتاء -ولأول مرة فى تاريخ مصر- إلى مرحلتين بينهما أسبوع كامل دون أى ضمانات! ضاربا بذلك الموعد المحدد فى الإعلان الدستورى كما يزعم، ولكنه إصرار على المضى قدما فى خطف الدستور بالقوة وبمختلف أشكالها وتحايل على عدم وجود القضاة بالعدد الكافى للإشراف على الاستفتاء على دستور البلاد. الأمر الذى يهدِّد بكارثة قانونية وشعبية قد تؤدى إلى معارك دموية عند جميع اللجان الانتخابية من المحتمل أن تصل إلى حرب أهلية لا قدر الله! 6- اعتداء الإخوان بميليشياتهم على المتظاهرين السلميين أمام قصر الاتحادية هو بمثابة خلق «الدولة البديلة» بدلا من الدولة الرسمية التى يحكمها الإخوان أنفسهم، الأمر الذى خلق ردود فعل مضادة أدَّت إلى حرق مقرات للإخوان وهى الجماعة غير الشرعية والمنحلة بحكم مجلس الدولة، ولدينا الأحكام بذلك، ورغم ذلك فإننى أرفض الاعتداء الإخوانى على المتظاهرين للمرة الثانية بعد محاولة الاعتداء الأولى يوم 12/10/2012 (جمعة الحساب) وأُصِبتُ كغيرى يومها فى مدخل شارع طلعت حرب بالتحرير وقت الهجوم الغادر لهم علينا. 7- استمرار حالة الإرهاب الجنائى والسياسى التى تقوم بها جماعة الإخوان أمام المحكمة الدستورية العليا ومنع القضاة من الدخول بتواطؤ د.مرسى الذى يزعم دائما أنها تقوم بمؤامرات ضده، بلا دليل. وفى المقابل تقوم جماعة السلف بقيادة حازم أبو إسماعيل بالاعتصام أمام مدينة الإنتاج الإعلامى لإرهاب العاملين فيها وذبح العجول والخراف إشارة إلى قرب ساعة الصفر بذبحهم واحدا تلو الآخر، فهل هذا من الدين أو الديمقراطية فى شىء يا شعب مصر العظيم؟! 8- حكومة قنديل اللاهية واللاهثة لعقد قرض الصندوق، ورفع الأسعار وإصدار قانون بذلك تراجع مرسى عنه بعد توقيعه بالتأجيل فقط، كأن الحكومة تعمل فى دولة أخرى ولشعب آخر. ما هذا الذى يحدث؟!. 9- الاستقالات لأحد مساعدى الرئيس ومَن سبقه مِن مستشاريه، تؤكد انهيار فكرة مؤسسة الرئاسة التى هى فى الأصل فرد واحد يمثل جماعة الإخوان لا الشعب! 10- الرفض الكامل للقوى السياسية والثورية والمدنية للتعامل مع مؤسسة الرئاسة لعدم التزام الرئيس بتعهداته، ولذلك فقد تشكلت جبهة ثورية للإنقاذ من أغلب هذه القوى لتكون فى مواجهة حقيقية مع المتأسلمين، وبدعم شعبى واسع. فى ضوء هذه الجوانب العشرة للمشهد السياسى، وهناك كثير مما يصعب تناوله، يتضح أنه من المستحيل تمرير دستور البلاد برضا شعبى واسع وسط هذا الغليان. الثورة مستمرة وستنتصر بإذن الله، ولا يزال الحوار متصلا.