حال من الخوف والترقب عاشها الهارب عبد الحميد أبو عقرب، يتنقل من مكان إلى آخر. بلاد تستقبله وأخرى تطارده يبحث عن ثقب إبرة يتنفس منه عبق الحرية والإنسانية معا، حلمه أن يعيش إنسانا وأمله أن لا يلتف حبل المشنقة حول عنقه، وجاءت مبادرة وقف العنف فكانت بصيص الضوء الذى أرسلته السماء إليه لتنتهى مأساة صاحب أطول قصة هروب فى التاريخ. هنا الجزء الثالث من الحوار. ■ ذكرت فى الجزء السابق من الحوار أنك قررت ترك المزرعة بشكل نهائى.. فلماذا؟ - فى شهر نوفمبر عام 2005 كانت هناك أرض بجوار المزرعة يملكها رجل من القرية، ودون وجه حق وضع موتور مياه فى أرض المزرعة، وكان هذا الموتور يسبب إزعاجا كبيرا للفراخ، بالإضافة إلى دخول دخان إلى العنبر يتسبب فى اختناقها، ومن ثَم تحدث خسائر كثيرة بالمزرعة، فقمت بإخراج الموتور من أرض المزرعة ووضعته فى أرض الرجل، ووضعت بدلا منه شادوفا لرفع المياه خاصا بمزرعتى، فقام هذا الرجل بتقديم شكوى فى قسم الشرطة فى حقى، قال فيها إننى رجل غريب عن القرية والأهالى لا يعرفون أصلى وفصلى، وربما أكون هاربا من بعض الأحكام، وعلى الفور أرسل قسم الشرطة فى طلبى فأرسلت صاحب المزرعة للاستعلام عن الأمر، فأصروا على حضورى للقسم، وعندها خشيت أن يتسبب ذلك فى معرفة حقيقتى، ومن ثم القبض علىّ، ودخولى فى متاهات كثيرة، فعزمت على ترك المزرعة قبل أن ينكشف أمرى، بعد 12 عاما، قضيتها فى المزرعة وأعطيتها من عرقى وجهدى الكثير. ■ وكيف تصرفت مع صاحب المزرعة؟ - قمت بعمل تقرير بكل تفاصيل المزرعة، ما لها وما عليها وأحضرت أحد أقرباء صاحب المزرعة وأعطيته كل ما معى من أوراق وأموال تخص المزرعة، وطلبت منه أن يعطيها لصاحب المزرعة، وأوهمته أن أخى مريض بشدة، وأريد أن أراه قبل أن يموت، وكان هذا بعد أن رتبت الأمر مع سائق إحدى العربات الذى جاء لكى يقلنى إلى وجهتى الجديدة، وتركت المزرعة وعينى تبكى على فراقها، وقد حزن كثيرا صاحب المزرعة على فراقى له، وبحث عنّى كثيرا دون جدوى، كما علمت بعد ذلك. ■ وإلى أين توجهت بعد ترك المزرعة؟ - كنت أعرف بعض التجّار الذين كانوا يأتون لشراء الطيور من المزرعة، وتربطنى بهم علاقات جيدة ولديهم بعض الأراضى يقومون بزراعتها فى الجبل فذهبت إليهم ومكثت عندهم فترة من الزمن أقوم بالزراعة معهم فى أرضهم حيث استصلحت معهم 5 أفدنة، وأذكر أننا قمنا بزراعة النباتات الصحراوية وعدد من أشجار النخيل، وتعرفت فى تلك المنطقة على عدد كبير من المزارعين، من محافظات شتى، وتعلمت منهم كيفية حفر الآبار العميقة من أجل استخراج المياه، إلا أن العمل فى الصحراء تسبب فى تعب شديد لعينى كاد يصل إلى انفصال شبكى مرة ثانية، وهذا ما جعلنى أفكر فى الرجوع للعمل بمزارع الفراخ مرة ثانية. ■ هل عدت للمزرعة القديمة أم ماذا فعلت؟ - لم يكن بمقدورى الرجوع إلى المزرعة القديمة، حيث حامت الشكوك حولى بعد اختفائى فى ظروف غامضة، لكن قررت الاتصال بصاحب المزرعة القديمة والذى كال لى أكواما من العتاب واللوم على تركى إياه، وترجانى كثيرا أن أعود إلى المزرعة، فتعللت له بأن علىّ ثارا وأن أصحابه عرفوا مكان المزرعة، ولو عدت سوف يقتلوننى فاقترح علىّ إنشاء مزرعة أخرى فى قرية مجاورة، على أن يشاركنى فيها بالمجهود فوافقت على ذلك وبدأت العمل فى المزرعة الجديدة بنفس نشاطى فى المزرعة القديمة. ■ ألم تفكر فى الزواج خلال تلك الفترة؟ - لقد حاولت الزواج فى أثناء فترة هروبى أكثر من مرة، إلا أنها كانت كلها تنتهى عند مشكلة بسيطة، هى عدم وجود إثبات شخصية لى، وبناء عليه كان المأذون يرفض عقد الزواج، ومحاولة استخراج بطاقة جديدة لى معناه اكتشاف أمرى، ولم يكن لى أى اتصالات تمكننى من تزوير بطاقة شخصية لى. ■ ألم يجُل بخاطرك فكرة تسليم نفسك للشرطة لكى تنتهى معاناتك؟ - تسليم نفسى معناه موتى لا محالة، ولو كان قتلى فقط لكان الأمر أهون ولكن تسبقه أهوال وأهوال أقسمت على نفسى بعد القبض علىّ فى العريش دون أى ذنب أن لا أذوقها مرة أخرى، فما بالى الآن، وقد نُسبت إلىّ كل أحداث الصعيد وحُكم علىّ بالإعدام مرتين، أضف إلى ذلك عشرات التهم التى تنتظرنى والتى تكفى لإعدامى مئة مرة على الأقل؟ كما تذكرت يوم عيد الأضحى 2006، وبينما أنا أعمل فى المزرعة وشاهدت فى التلفاز إعدام صدام حسين ورأيت حبل المشنقة يلتف على عنقه حزنت حزنا شديدا وانتابنى شعور بأنى لا أريد أن ألقى نفس مصير صدام حسين، وعلى الرغم من علمى بظلمه لشعبه، فإننى أشفقت عليه أن يُقتل بتلك الطريقة، وبيد أعدائه فى هذا اليوم مادت بى الأرض وظللت طول اليوم حزينا مكتئبا وأفكر فى أمرى وأقول: أنا محكوم علىّ بإعدامين ظلما ولو قُبض علىّ سيكون مصيرى مثل مصير صدام وظللت طول اليوم حزينا على نفسى وعلى صدام. ■ هل كان لديك أمل فى انتهاء هذه الأزمة بين الجماعة والأمن؟ - فى الحقيقة كنت عندما أرى عربات الأمن المركزى تقتحم بعض الزراعات بأكثر من 50 عربة بها مئات الجنود ويحدث إطلاق نار كثيف جدا كان ينتابنى شعور بأنه لا يوجد حل للأزمة أبدا. ■ هل سمعت فى تلك الفترة عن مبادرة وقف العنف التى أطلقتها الجماعة الإسلامية؟ - نعم، سمعت عنها فى الصحف وقمت بشراء مجلة «المصور» وقرأت ما كتبه الأستاذ مكرم محمد أحمد وحواراته مع قادة الجماعة الإسلامية، وكنت سعيدا جدا بما ورد فيها وشعرت بأن لحظة الفرج اقتربت لكن أحزننى ما قرأته من أن قيادات الخارج غير موافقة على المبادرة وانتظرت أن يفرج ربنا كرب إخوانى فى السجون وفهمت أكثر عن المبادرة عندما شاهدت لقاءً تليفزيونيا جمع عبد اللطيف المناوى مع الشيخ كرم زهدى والدكتور ناجح إبراهيم وأيقنت نجاح المبادرة وأنها رغبة حقيقية من قبل الجماعة فى إنهاء حالة الصدام المسلح مع الأمن وهذا ما كنت أبحث عنه منذ زمن. ■ ومتى بدأت تفكر فى تسليم نفسك؟ - بعد أن عرفت أن عددا كبيرا من إخوة الجماعة الإسلامية خرجوا من السجون ويعيشون بشكل طيب وحتى، من لم يخرج منهم وظل فى السجن فيعيش عيشة طيبة لا تهان فيها كرامته ولا يتم تعذيبه، وصارحت نفسى بأنه آن لغربتى أن تنتهى وعذابى أن ينتهى وأعيش مثل أى إنسان وأستريح من عناء وشقاء الغربة وأنا لا أعرف شيئا عن أهلى وعن زوجتى التى تركتها وفى بطنها جنين لا أعرف مصيره، وظللت على تلك الحال أفكر كثيرا حتى أصابنى الإعياء، ولاحظ صاحب المزرعة ذلك وحاول التخفيف عنى قدر المستطاع لكن دوى جدوى، وظللت أدعو الله أن يرسل إلىّ الفرج من عنده، حتى جاء. ■ كيف؟ - عقب تفعيل المبادرة بدأ أعضاء الجماعة الإسلامية فى الخروج، وكان من ضمن من خرج أناس من القرية عرفتهم، وكان بعضهم يأتى ليجلس معى دون أن يعرف من أنا ويتحدث معى عن أحوال السجن، وكان يحكى لى عن المبادرة وعن المحاضرات التى كان يلقيها قادة الجماعة الإسلامية لأعضاء الجماعة وكيف أن المعتقلين يُعاملون معاملة جيدة فى المعيشة وفى الزيارة وفى كل شىء وأن كل طلباتهم تُنفَّذ، والعجيب أن هذا الأخ أحيانا كان يحدثنى عن بطولات أخ اسمه عبد الحميد أبو عقرب، اللى هو أنا، وأنى فعلت وسويت، فأموت من الضحك فى نفسى. ■ ما الخطوات التى اتخذتها فى سبيل تسليم نفسك؟ - فى البداية استخرت الله كثيرا حتى إذا اطمأن قلبى طلبت من هذا الأخ أن يحضر لى رقم الشيخ كرم زهدى، وكان وقتها خرج من السجن، واتصلت به وقلت له أنا عبد الحميد أبو عقرب فلم يصدق الأمر، فلما تبين له أنى أبو عقرب رحّب بى وسألنى عن أحوالى فأخبرته أنى بخير وأريد تسليم نفسى. ■ هل كانت لك شروط لتسليم نفسك؟ - لم يكن لى سوى شرط واحد، أن لا أُسأل عن المكان الذى كنت فيه والأشخاص الذين كنت معهم حتى لا يُضار أحد بسببى، ثم بعد ذلك يفعلون بى ما يشاؤون. ■ نكمل قصة تسليمك لنفسك. - بعدما عرضت على الشيخ كرم تسليم نفسى رحّب بذلك، وقال لى: «لن تندم على تلك الخطوة»، وأخذ منى العنوان وكان ذلك يوم 13/5/2007 وقال لى «سآتى إليك غدا»، إلا أنه لم يأتِ فى ذلك اليوم وجاء فى اليوم التالى له وكان معه الشيخ ممدوح على يوسف والشيخ محمود جاد الكريم، وعندما سألته لماذا لم تأتِ فى اليوم المُحدَّد قال لى: «حتى أترك لك الفرصة لكى تستخير مرة أخرى، لأنى لا أريدك أن تندم على تلك الخطوة التى اتخذتها»، وجلسنا معا فى المزرعة، أكلنا وشربنا الشاى وصلينا الظهر. ■ ألم يتساءل مَن بالمزرعة عن ضيوفك؟ - بلى، سألوا فقلت لهم: «هذا شقيقى الأكبر، وقد حضر ليخبرنى بأن أمى مريضة، ويريد منى أن أذهب لكى أسلّم عليها قبل أن تموت»، وودعت صاحب المزرعة وأولاده، فوجدت الجميع يبكى لفراقى إياهم، وكان هذا هو آخر يوم من أيام محنتى وهروبى. ■ ظللت هاربا لما يقرب من 15 عاما ولم يتم التوصل إليك.. فما السر فى نجاح هذا الهروب الطويل؟ - لقد اتبعت قاعدة فى هروبى هى قطع الصلة بكل من أعرف، ونفذت هذه القاعدة بكل حذافيرها، فكان هروبى بمفردى، وذهبت إلى بلاد لا يعرفنى فيها أحد، ولم أُبدِ أى مظهر للالتزام مثل اللحية والسواك والثوب الأبيض القصير والمصحف فى الجيب والغترة أو غطاء الرأس، وكانت معظم ثيابى جلابية صعيدى وصديرى، كما أنى لم أكن أتحدث إلى الناس كثيرا، وأطفئ الأنوار من بعد المغرب حتى لا أفتح المجال لأحد لكى يأتى ويتسامر معى، وأمارس نفس المهن التى يمارسها أهل القرية التى أمكث فيها ولا أبدى أى مظهر أو سلوك يشير إلى أنى حاصل على تعليم جامعى.