غريب قِصَر ذاكرة البشر. فى أقل من سنتين منذ التنحى لا نزال جميعا نكرر نفس الأخطاء التى جربناها ولم تفلح. مرة لأننا نعتقد أن حظها معنا أفضل من حظها مع الفصيل الآخر. ومرة لأننا نعتقد أنها «هتنفع المرة دى». فى هذا المقام لا بد أن نتذكر تعريف أينشتاين للحمق: «أن تكررى نفس الأفعال، ثم تنتظرى نتيجة مختلفة». حقيقة: الشعب المصرى كتير قوى.. وفيه شرايح اجتماعية وطبقية، وفيه معتقدات، وفيه أولويات. إذا نظرت حولك، وأعجبتك الكثرة، فتذكرى أنها ليست على قلب شخص واحد. هل هذا عنصر ضعف فيها؟! بالعكس تماما. هذا عنصر قوة فى الديمقراطية. لأنه يعنى أن أحدا لن ينفرد بالسلطة ويصنع قالبا يدخل فيه الشعب فردا فردا من ناحية، ليخرج من الناحية الأخرى على صورة الحاكم وشكله. كما أن التنوع يضمن -فى الديمقراطية- عدم حدوث تغيرات راديكالية أكثر من قدرة المجتمع على تقبلها وهضمها وامتصاصها دون أن يلفظها جسده. نقطة تعريف بسيطة: أرى نفسى إنسانا تقدميا بغض النظر عن ميولى السياسية. ما قيمة هذه المعلومة؟! أن أذكِّرك بأننى أتمنى للمجتمع المصرى مسارا مختلفا تماما عن وضعه الحالى، لكننى فى الوقت نفسه أدرك أن دورى فى تحقيق هذا لا يتعدى الدعوة إليه. أما سرعة تحقيق هذا فتعتمد على المجتمع نفسه. لا مجال ولا فى الأحلام لأن أفرض على المجتمع وجهة نظرى. ولا مجال ولا فى الأحلام لأن أسمح لغيرى بأن «يفرض» تصوراته الفكرية علىَّ. لكى نخرج من هذه الحلقة المفرغة التى دخلنا إليها منذ التنحى لا بد أن لا أنسى، ولو للحظة، أن الآخرين ليسوا قوالب مِنّى. وأن ما أومن به وما أراه خيرا، قد يراه غيرى شرا. وأن لا مجال لحسم هذه الأمور إلا من خلال مؤسسات ديمقراطية. مؤسسات ديمقراطية حقيقية. وهذا بيت القصيد. الحاجة إلى بناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية هى الهدف الوحيد الذى يجب أن لا نختلف عليه، وأن لا نسمح بالمراوغة فيه، وأن لا نسمح بالرقص على حبال الشرعيات. لقد فعلنا هذا من قبل بعد التنحى، وقت أن كان آخرون متحالفين مع الإخوان ضد قوى التحرير. لكنه لم يفلح. لأن قوى التحرير هى إلكترونات مصر فى الوقت الحالى، هى العنصر النشط فيه، ولا يمكن تجاوزها. وأيضا لأن الإخوان ظنوا أنهم يستطيعون الانفراد بالسلطة، وأعجبتهم كثرتهم، وصدقوا تهديداتهم لنا. الآن اختلفت التحالفات.. وسوف تظل الخلافات. لكن يبقى أن تعطيل جهة ما لغيرها من المؤسسات تعدٍّ من هذه الجهة على الشرعية الديمقراطية التى أتت بها، وتعدٍّ على الدور الدستورى الذى نِيطَ بها، وانقلاب على الديمقراطية. ولا أريد بهذا نقاشا نظريا. إنما أريد أن أشرح وجهة نظر من يرون أن محمد مرسى فقد شرعيته بالفعل كرئيس، ولا بد من إسقاطه، ليس فقط إسقاط الإعلان الدستورى. لكن فى نفس الوقت، لا بد لأصحاب هذا الرأى، وأنا منهم، أن ندرك ما فيه الرؤية الأخرى -السياسية- من وجاهة وإن اختلفنا معها. ولا نكرر أخطاءنا. بالنسبة إلى السياسيين فإن تصعيد المطالب بدءا من إسقاط الإعلان الدستورى والجمعية التأسيسية وصولا إلى إعلان سقوط شرعية الرئيس والسعى لعزله أمر حتمى. من وجهة نظرهم فإن هذا يُكسِب المطالبات فى الشارع دستورية، ويظهرهم بمظهر من لا يتصيد الأخطاء، بل من يعطى المخطئ فرصة للعودة عن خطئه. ويحاول تجنيب البلاد الدوران فى حلقة مفرغة. هذا النهج -وقد أقررت له بالوجاهة- فيه محاذير ميدانية، أنه يسمح لنظام الإخوان بمزيد من المراوغة وخلط الأوراق. لذلك لن يمكن لهذا النهج أن ينجح إلا فى حالة واحدة فقط: لو أسس للحد الأدنى الذى أشرت إليه أعلاه، ضمان عمل مؤسسات ديمقراطية حقيقية. لا نريد أن نكرر خطأ التنحى ونترك الشارع قبل أن تشغّل هذه المؤسسات الموتور ونطمئن إلى أنها سارت. دون هذا ستكون النتيجة أقل كثيرا من سقف الطموح. على جبهة الإنقاذ أن تدرك نفسها قبل الغرق، والخطوة الأولى السعى الحثيث لضمّ ممثلين عن كل الكتل. لكى يكون قرارها انعكاسا لكل من فى الميدان. أكتب هذا الكلام بينما يُشاع أن الإخوان يحشدون للذهاب إلى الاتحادية. ومن ثم فبعد ساعة واحدة قد يصير هذا المقال بلا معنى، ويسقط مرسى تماما كما سقط قبله مبارك.